عبدالوهاب بدرخان
أدخل الرئيس دونالد ترمب الولايات المتحدة عصر الانقلابات الاستراتيجية عبر «تويتر»، كان يُقال إن قرارات مهمّة يمكن أن تُلغى بـ «شحطة قلم»، وأصبح يُقال الآن بـ «تغريدة»، في رسم كاريكاتيري متداول، ينقل القائد الأمر إلى عسكرييه كما بلغه: «لقد غُرِّد بنا إلى خارج سوريا»، وانشغل بعض الإعلام بالأخطاء الإملائية التي تضمنتها تغريدات ترمب، واستنتج أنه كتبها بنفسه، ولم يستعِن بمساعده المختص، أراد أن يخرج قرار الانسحاب من سوريا مباشرة منه إلى العالم، قبل أن تبدأ الدوائر المعنية وضع الترتيبات المعتادة لإصداره، تضاربت المعلومات حول ما سبق، فقيل إنه تشاور لمرة أخيرة مع وزيرَي الدفاع والخارجية، وقيل أيضاً إنه لم يشاورهما لأنه يعرف موقفهما غير المحبذ، لذا اكتفى بإبلاغهما أن قراره المتخذ قبل 9 شهور أصبح لتوّه نهائياً.
هل ضاق الفارق إذاً بين دولة المؤسسات ودولة الحاكم الفرد؟ مع ترمب كل شيء ممكن، كان المرشّح تعهد بهذا الانسحاب ويريد أن يفي بوعده، وإذ يُواجَه بأنه انتقد سلفه باراك أوباما على انسحابه من العراق، فربما يرد بأنه لم يطلب بعد سحب قواته من العراق، لكنه قد يفعل، لأن المنطق هو ذاته: أميركا تتحمل تكاليف لا يرى أية فائدة منها، فتنظيم «الدولة» ضعف وهُزم بل احتُفل بالنصر في بغداد، ومع أن العراق دولة نفطية إلا أن خزينتها متواضعة، ولا مجالات كثيرة لـ «البزنس» معها، وبالعودة إلى سوريا، فإن ترمب كان يسأل أعوانه ومستشاريه: «ماذا نفعل هناك»؟ ولم تقنعه الإجابات، فكل ما سمعه عن حقول النفط والغاز والمساحات الزراعية في دير الزور والرقّة لم يساوِ عنده سوى مليارات قليلة، لا تبرّر استثماراً عسكرياً باهظاً تبذله أميركا ولا يخلو من المخاطر، ثم إن الهدف الاستراتيجي منه ليس واضحاً بالنسبة إليه.
فجأة صارت الأهداف الثلاثة المحددة غير ذات قيمة، أولها هزيمة تنظيم «الدولة»، فاعتبر أن أميركا أنجزت ما عليها في هذا المجال، وإذا كان التنظيم يتحفّز لمعاودة الظهور، فليتولَّ أمره من يرغب من الآخرين، وثانيها حماية أمن إسرائيل، فتذكّر أنها كذبة تقليدية تُستخدم فقط لأغراض «البروباجندا» الإقليمية، وثالثها تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، فرأى أن العقوبات التي فرضها على إيران تفي بالمطلوب، أما الوجود العسكري فيستدرج مواجهات لا يريد توريط أميركا فيها، وأضيف إلى ذلك أخيراً إعلان الرئيس التركي تصميم تركيا على «تطهير» شمال شرقي سوريا من الإرهابيين، وبدا كأن ترمب وجد في النبرة الأردوغانية العالية ذريعة أخرى للانسحاب، وحين كان يقال له إن الوجود الأميركي على الأرض يساهم في تصويب التسوية السياسية للأزمة السورية، فلا شك أن هذا آخر ما يهمّ ترمب.
الانسحاب الأميركي يدفع بالوضع السوري إلى احتمالات عدّة، إذ اعتبر خصوم ترمب في واشنطن خطوته «خطأً فادحاً»، فيما رحّب الرئيس الروسي بها كـ «قرار صائب»، وإذا قُرئت مع قرار الانسحاب من أفغانستان فإنها تفضي إلى خروج أميركي من «الشرق الأوسط الكبير»، للتركيز على شرق آسيا والمحيط الهادي، ويمكن عندئذ وضع احتواء إيران في هذا الإطار الأوسع، وربما لم يخطئ الذين رأوا في الانسحاب «هدايا» لروسيا وإيران وتركيا والنظام السوري وإسرائيل، لكن الهدايا في السياسة الدولية عادة أو غالباً ما تكون مسمومة.
العرب القطرية