د. فيصل القاسم
لا شك أن إيران صارت الحاكم بأمرها في العراق بفضل تحالفها مع الغزاة الأمريكيين منذ بداية هذا القرن، ولا شك أنها تحاول تعميم التجربة العراقية على لبنان وسوريا واليمن وأي بلد عربي تستطيع اختراقه بدعم أمريكي و”إسرائيلي”. لكن كما يقول المثل الشعبي ليس كل وقعاتها بزلابية، فالتركيبة السكانية والدينية والثقافية لكل بلد عربي تختلف عن الآخر، فلا يمكن مثلاً تمرير الوصفة الإيرانية في العراق في سوريا، ففي العراق مثلاً تمكنت إيران من إحكام قبضتها على النظام العراقي بعد الغزو أولاً بمباركة أمريكية، وثانياً وهو الأهم أن حوالي نصف العراق هم من الشيعة المذهب السائد في إيران ذاتها، لهذا استخدمت العامل المذهبي والديني بقوة في تمرير مخططها في العراق عن طريق وكلائها الدينيين ومن بعدهم المسؤولين الشيعة الذين يوالونها مذهبياً وعقدياً. ولا ننسى أن هناك قاعدة وحاضنة شعبية في العراق تساعد الإيرانيين على التغلغل في البلاد ثقافياً ودينياً ومن ثم السيطرة على الأرض.
صحيح أيضاً أنها استطاعت عبر ذراعها المذهبي والعسكري المتمتثل بحزب الله أن تتغلغل في لبنان وتحكم قبضتها على جزء كبير منه بالترغيب والترهيب، لكن تأثيرها الثقافي والديني يبقى منحصراً في الضاحية الجنوبية من بيروت حيث يتمركز حلفاؤها الشيعة، بينما تبقى بقية أجزاء لبنان المسيحية والدرزية والإسلامية السنية خارج التأثير الإيراني الممجوج والممقوت والمرفوض رفضاً قاطعاً. وتتمثل السيطرة الإيرانية على لبنان في ذراعيها الاقتصادي والعسكري فقط، فهي قادرة على تطويع الأحزاب اللبنانية بالقوة والترهيب أو بالتمويل فقط، ومهما مكثت في لبنان لن تستطيع أن تتجذر بسبب تنوع التركيبة الديمغرافية والدينية والثقافية في البلاد.
ويستاءل البعض: بما أن إيران تمكنت من فرض سيطرتها على العراق مذهبياً وسياسياً، وفي لبنان عسكرياً واقتصادياً، فلماذا لا تتمكن من الهيمنة على سوريا بذات الطريقتين أو بطريقة مختلفة؟ والجواب على هذا السؤال: إن الوضع في سوريا أصعب على إيران بكثير مهما قدم لها النظام من خدمات وتسهيلات على الأرض مرحلياً. لماذا؟ لأن الغالبية العظمى من الشعب السوري لا توالي إيران مذهبياً كما في العراق، فالسواد الأعظم من السوريين من المسلمين السنة الذين يكرهون الأرض التي تمشي عليها إيران، لا بل يعتبرونها قوة غازية تحاول أن تفرض مذهبها على شعب غالبيته من السنة.
دعك من القيادات الدينية السنية السياسية في سوريا التي تسبح بحمد إيران وتبارك التحالف معها الآن، فهذه الطبقة لا تمون على شيء في سوريا أصلاً وهي مجرد موظفين يؤدون مهمة مطلوبة منهم من القيادة السورية التي تتحالف مع إيران لمصلحتها بالدرجة الأولى وليس لتمكين الإيرانيين من رقبة سوريا.
والأمر الإيجابي الآخر أن الطائفة العلوية التي قد تبدو متحالفة مع إيران مذهبياً، إلا أن الواقع يقول إن العلويين هم أكثر الكارهين للنفوذ الإيراني في سوريا، ولا ننسى أن الشيعة يكفرّون العلويين أصلاً ولايعتبرونهم من الاثني عشرية. أضف إلى ذلك أن العلويين طائفة علمانية تحب الحياة ومعظم أفرادها متنورون ومنفتحون ويكرهون الانغلاق والفكر الظلامي الإيراني، ومهما حاولت إيران اختراق مناطقهم بالعامل المالي واستغلال ظروفهم الاقتصادية المزرية، إلا أنهم لن يقبلوا بتشييعهم وتحويلهم إلى دراويش في ولاية الفقيه. ولا شك أنهم سيقاومون إيران مثل بقية السوريين وربما أكثر.
لا تصدقوا كل الأقاويل أن سوريا صارت في الجيب الإيراني، فبالرغم من كل التسهيلات التي حصلت عليها إيران في سوريا، إلا أنها تبقى حتى في نظر القيادة السياسية والعسكرية والأمنية في سوريا قوة غريبة أجبرتها الظروف على التحالف معها عسكرياً وسياسياً، لكن لا يمكن السماح لها بابتلاع البلد وتسييره حسب الرغبة الفارسية. ومن الأمور الإيجابية في سوريا الآن أن الغالبية العظمى من الطبقات الثقافية والسياسية والدينية تستخدم أسلوب التقية مع إيران، على مبدأ: داوها بالتي كانت هي الداء.
تمالأها في العلن، وتلعنها سراً. ولا بد من التذكير هنا أن السواد الأعظم من النخبة السياسية والأمنية السورية يكره الإيرانيين كما يكرهون الأمراض، ويقولون فيها ما لم يقله مالك في الخمر في جلساتهم الخاصة، فهم لا يطيقونها ويعتبرون التحالف معها ضرورة أجبرتهم عليها الظروف لحماية النظام لا أكثر ولا أقل. وقد يكون لدى إيران الآن في سوريا موالون داخل القيادات الأمنية والعسكرية، لكن النظام يراقب كل شيء ويعرف كل شاردة وورادة عن التغلغل والنفوذ الإيراني داخل البلاد، لا بل إن أكثر من يحارب عمليات التشييع الإيرانية داخل سوريا ويضبطها هو النظام. ولا تتفاجأوا إذا سمعتم أن أكثر من يحاول كبح جماح الإيرانيين داخل سوريا هي القيادة السورية. ومن الخطأ الظن أن البلد قد تم تسليمه لإيران. لا أبداً. وهناك كلام الآن عن أن النظام بصدد تسريح العديد من القيادات العسكرية والأمنية المقربة من إيران. ولا ننسى أن التحالف مع الروس كان هدفه الأساسي منع إيران من السيطرة على سوريا وابتلاعها. ولو سألت السوريين في الداخل: من تفضلون: إيران أم روسيا لصوّت كل السوريين لصالح النفوذ الروسي ضد الإيراني، لأن روسيا ليس لديها مطامع دينية وثقافية إحلالية في سوريا على الأقل كما لإيران.
ولا تتفاجأوا أيضاً إذا سمعتم أن القيادة السورية قد تنفست الصعداء بعد طرد الإيرانيين من سوريا بهذه الطريقة أو تلك. ولن أتعجب إذا سمعت أن الكثيرين في سوريا يباركون الضربات التي تتعرض لها القواعد الإيرانية في البلاد من هذا الطرف أو ذاك. دعكم من التصريحات السياسية، فهي للاستهلاك الإعلامي فقط. والنخبة السورية المتحالفة مع إيران الآن تعلم علم اليقين أن تعاظم النفوذ الإيراني في سوريا يشكل خطراً عليها أكثر من أي شيء آخر، لهذا ستكون أسعد الناس عندما يتم تقليم أظافر الإيراني في سوريا على أن تبقى حليفاً مضبوطاً في خدمة سوريا وليس العكس.
ولا تنسوا أن التحركات الأمريكية و”الإسرائيلية” والعربية لتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة كلها تصب في خدمة الموقف السوري حتى لو لم يعلن عن موقفه.
كاتب وإعلامي سوري
القدس العربي