د. سمير صالحة
ازدادت في أواخر التسعينيات حدة التوتر بين أنقرة ودمشق بسبب الدعم المتواصل الذي كانت تقدمه دمشق لتنظيم “حزب العمال الكردستاني” المصنّف إرهابياً من قبل كثير من العواصم والدول، رداً على سياسة تركيا المائية وتمسك سوريا بطرح مصير موضوع منطقة إسكندرون الحدودية وطبيعة التحالفات الإقليمية المتباعدة بين البلدين. أعلنت أنقرة الاستنفار العام والاستعداد العسكري لإنهاء هذه الحالة على حدودها عبر توجيه إنذار أخير لدمشق فتحركت الوساطات العربية بإشراف مصري ساهم في الوصول إلى توقيع اتفاقية أضنة عام 1998 وإخراج عبد الله أوجلان من سوريا وفتح صفحة جديدة من العلاقات التركية السورية.
قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل يومين، إن اتفاقية أضنة المبرمة قبل عقدين ما زالت فاعلة وإن أنقرة قد تلجأ إلى تنفيذ بنودها مشيراً إلى أنه بحث ذلك مع نظيره الروسي فلادمير بوتين خلال لقائهما الأخير. تُفسّر أنقرة الاتفاق على أنه يعطيها حق التدخل العسكري المباشر لأن “وحدات حماية الشعب” هي تنظيم إرهابي امتدادي لحزب العمال الكردستاني. لكن هناك من يرى في الجانب الآخر أن الاتفاق يتطلب تحريك آليات مشتركة واضحة بينها خط اتصال مباشر بين سلطات البلدين وتشكيل لجان عمل مشترك تتخذ القرارات المناسبة بهذا الخصوص. ألن يكون لتغيير خارطة الوجود العسكري في شمال سوريا اليوم أي تأثير على طريقة تنفيذ اتفاقية أضنة حيث يغيب النظام عن التواجد هناك ويريد ويكرر دائماً أنه يدعو المجتمع الدولي لمساندته على استرداد سلطته الكاملة على الأراضي السورية؟
النصوص العربية المتناقلة تتحدث وبموجب هذه الاتفاقية عن إعطاء تركيا الحق بمطاردة هذه المجموعات الإرهابية بعمق 5 كيلومترات شمال سوريا، وعن إمكانية اتخاذ تركيا للتدابير اللازمة لمنع تهديدات هذه المجموعات فهل يمكن تفسير ذلك على أنه مستند قانوني يعطي أنقرة حق إقامة منطقة آمنة أو عازلة داخل الأراضي السورية؟
العودة إلى طرح تنفيذ اتفاقية أضنة يعني وجود التباعد التركي الروسي في تفهّم وقبول منطق المنطقة الآمنة الذي تتحدث واشنطن مجدداً عنه. ما تقوم به موسكو اليوم يعكس أكثر من حقيقة، فهي تدعم بشار الأسد باتجاه أن يسترد السيطرة على كافة المناطق السورية بما فيها المناطق التي ستنسحب منها القوات الأميركية وتشجع “قسد” على الحوار مع النظام من أجل تحقيق هذه الغاية. لكن ما يقوله الكرملين اليوم حول إن اتفاقية أضنة ما زال مفعولها مستمراً يعكس حقيقة أنه يتطلع إلى محاصرة “قسد” بورقة دمشق وصوب التنسيق مع واشنطن في الملف السوري وتحديداً في شرق الفرات لتقليص النفوذ التركي والإيراني وتقاسم الكعكعة السورية مناصفة مع واشنطن.
أنقرة وعبر وزير خارجيتها مولود جاووش أوغلو ترى أن تصريح بوتين بشأن اتفاقية أضنة بين تركيا وسوريا، يعني أن لأنقرة الحق في التدخل عسكرياً إذا لم تستطع سوريا القضاء على “الإرهابيين” الذين يهددون تركيا. لكن هناك من يرى في موسكو ودمشق أن الهدف من خلال فتح الطريق أمام القوات التركية في شرق الفرات أن تتراجع عن خطة المنطقة الآمنة مقابل تعهد النظام بموجب اتفاقية رسمية بإنهاء وجود “وحدات حماية الشعب” وضمان عدم قيام كيان انفصالي على الحدود التركية السورية.
النتيجة التي أعلنت بعد لقاء نائب وزير الخارجية التركية سيدات أونال، مع نظيره الروسي سيرغي فيرشينين، في العاصمة موسكو، بعد اجتماع القمة الأخير تقول أيضاً إن أنقرة وموسكو يبحثان فرصة طمأنة تركيا حدودياً وقطع الطريق على مشروع انفصالي في شمال سوريا.
يقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن أنقرة قادرة بمفردها على إدارة شؤون المنطقة الآمنة في شمال سوريا لكنها تفضل أن يكون ذلك بالتشاور والتنسيق مع واشنطن وموسكو، لكن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يماطل في إنجاز تفاهمات مدينة منبج التركية الأميركية فكيف سيفتح الطريق أمام أنقرة لتنفرد في إمساك خيوط اللعبة في المنطقة الآمنة؟
بوتين من ناحيته هو يعلن أنه يمسك بورقة اتفاقية أضنة الموقعة قبل 21 عاماً بين أنقرة ودمشق لتضييق الخناق على التحرك التركي في المناطق الحدودية فهذه الاتفاقية قد تعطي الأتراك حق مطاردة عناصر التنظيمات الإرهابية داخل الأراضي السورية إذا ما فشل النظام في ذلك لكنها لا تعطيها حق إقامة منطقة آمنة أو عازلة تحت ذريعة فشل النظام السوري في حماية الأمن القومي التركي كما تردد موسكو نفسها.
بإيجاز أكثر إذا ما قررت تركيا فعلاً العودة إلى إحياء اتفاقية أضنة فهي تكون بذلك أعلنت العودة إلى تنفيذ مواد ونصوص هذه الاتفاقية التي تجعل من النظام في سوريا شريكاً ومرجعاً قانونياً وسياسياً في تنفيذها كونها اتفاقية ثنائية فيها كثير من المواد التي تتحدث عن ضرور المراقبة والتحرك الأمني والعسكري والاستخباراتي المشترك لمحاربة المجموعات الإرهابية.
مشكلة أخرى أكبر هي أن أنقرة تعرف أن موسكو تخوض عملية وساطة بين مجموعات “حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني” الموصف بالإرهابي في تركيا، وبين النظام السوري باتجاه تأمين صيغة أمنية تخرج هذه المجموعات من شمال سوريا كخطر يهدد الأمن الحدودي التركي فهل ستعارض تركيا تفاهمات من هذا النوع إذا ما أعطتها ما تريده من ضمانات أمنية حتى ولو كانت تمنح موسكو فرض مشهد سياسي جديد على الجميع في سوريا؟
الحديث عن تحريك اتفاقية أضنة بين تركيا وروسيا هدفه تذكير واشنطن بوجود بدائل أمامهما إذا ما ماطلت في تنفيذ قرار الانسحاب وبالتالي إحراق ورقة اللاعب المحلي الكردي التي تملكها في سوريا عبر أكثر من مناورة، بينها التلويح بإعادة الروح إلى تفاهمات أضنة التي تلزم أنقرة بتشكيل لجان عمل تركي سوري ولجان مراقبة وتفعيل خطوط التواصل بينهما قبل كل شيء. لكن تفعيل اتفاقية أضنة يتطلب أيضاً الأخذ بعين الاعتبار التغيرات السياسية والعسكرية والميدانية الديمغرافية في سوريا والتي لعبت تركيا دوراً أساسياً في حدوثها عبر عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون في الشمال السوري فكيف ستكون عملية تطبيق اتفاقية أضنة من جانب واحد، وهي ثنائية وقعت في أجواء وظروف معروفة الأسباب؟
التلويح باتفاقية أضنة من الممكن تفسيره على أنه قد يضيق الخناق على مشروع الكيان الإداري الكردي المستقل في سوريا وإلزام “وحدات حماية الشعب” بقبول الحل التركي – الروسي كبديل أكثر فاعلية وعملية من الطرح الأميركي الذي تعارضه الدول الضامنة ويرفضه النظام وقوى المعارضة السورية بأكملها. لكنه أيضاً وعبر إحياء اتفاقية أضنة التركية السورية الموقعة عام 1998 يعني كذلك أن روسيا من خلال توسطها بين النظام في سوريا و”مسد” كسبت نفوذاً جديداً في شرق الفرات بقبول ودعم تركي هدفه تقليص النفوذ الأميركي هناك وإضعاف التنسيق بين واشنطن والوحدات الكردية المحسوبة عليها فهل سيظل ترمب متفرجا؟
تلفزيون سوريا