أيّنا لم يقرأ حديث: “لا تُصلّوا العصر إلا في بني قريظة”، الذي رواه البخاري ومسلم، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ كلا الفريقين: الفريق الذي أخذ بظاهر النص فلم يصلّ العصر إلا في بني قريظة، والفريق الذي أخذ بروح النص فصلّى في الطريق، وغذَّ السير إلى بني قريظة.
والأحاديث النبوية التي تعلّمنا كيف نتقبّل وجهات النظر المختلفة، ما دام أصحابها يبغون الخير ولا يصادمون النصوص، هذه الأحاديث كذلك هي درس لنا. فمن ذلك الحديث الذي رواه الأئمة أحمد والترمذي، والحاكم في مستدركه، حيث استشار النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم أصحابه فيما يفعله في أسرى بدر، فكان لأبي بكر الصدّيق رأي ولعمر بن الخطاب رأي، ولعبد الله بن رواحة رأي قريب من رأي عمر، رضي الله عنهم جميعاً، فأثنى النبي صلى الله عليه وسلم عليهم جميعاً، وأخذ برأي أبي بكر.
بل تذكر لنا بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استوعب جهل الجاهلين، وأرشدهم برفق وكياسة، فالشاب الذي قال له: ائذن لي بالزنى (في الحديث الذي رواه أحمد بإسناد صحيح)، والأعرابي الذي بال في المسجد وأراد الصحابة أن يمنعوه فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تزرموه”، أي لا تقطعوا عليه بوله. ثم أتى بدلو من ماء فصبّه على المكان، وعلّم الأعرابي أنه لا يليق هذا بالمساجد (والحديث رواه الشيخان).
فهل تَعَلّمنا الرفق والكياسة واللين والأدب من سيدنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم؟!. إنه ما يزال فينا من يخاطب إخوانه بفظاظة وغلظة، ويسفّه آراءهم، ويصفهم بالطيش والجهل. لماذا؟ لأنهم رأوا راياً غير الذي يراه هو، مع أن المسألة، في الغالب، تكون مسألة خلافية، وقد قال بكلا الرأيين أئمة ذوو شأن.
ألا ترون من يثير في كل مناسبة مشكلةً بين المسلمين لمثل هذه المسائل الخلافية، فيسفّه أو يجهل أو يبدّع من يرى خلاف رأيه؟! فمرّة يثير مسألة صدقة الفطر، وهل يجب أداؤها طعاماً أم يجوز دفع قيمتها، ومسألة صلاة التراويح: هل هي ثماني ركعات أو عشرون؟ والاحتفال بالمولد النبوي هل نتعصّب له أم نتعصّب عليه؟ والجمع بين الصلوات بسبب المطر، والمسح على الجوربين في الوضوء، والصلاة بين السواري في المسجد… وهكذا، وهكذا؟.
ألا يحسن بنا أن نتأدب بأدب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفعل ما نراه الأصوب مما قاله بعض الأئمة، ونعذر من رجّح الرأي الآخر، وننظر إليه نظر الأخ الحبيب.
لقد تعودنا، ونِعمَ ما تعوّدنا، أن يقرأ بعضنا الفاتحة وهو يصلي خلف الإمام، ويصمت بعضنا فلا يقرؤها، ولا يجد أحدنا في قلبه انتقاصاً من فعل أخيه، ما دام كل منهما يتبع اجتهاد إمام من أئمة العلم.
إن كل عالم ممن يرى الرأي الذي ترتاح إليه، أو الرأي الآخر، إنما تحرّى مرضاة الله والاقتداء برسول الله، فلتنظر إلى الرأيين نظرة تقدير وإكبار، لا نظرة استهجان وتحقير.
وإنْ تعجب فاعجب ممن يتهجم على أخيه المسلم الذي تبنّى اجتهاداً غير اجتهاده، ثم تراه يدعو إلى احترام الرأي الآخر، الرأي الذي يصدر عن العلمانيين، بحجة الانفتاح واحترام التعددية والقبول بالاحتكام إلى رأي الأكثرية!.
وقد تكون حجّة أحدنا وهو يتهجّم على أخيه ويسفّه رأيه، هو أن أخاه هذا قد بدأه بالتهجّم والتسفيه، وإن من حقه أن يردعه، بل أن يردّ له الصاع صاعين!.
يأيها الأخ الحبيب، إن الجهل لا يقابَل بجهل، وإن جزاء السفيه – إن سلّمنا أن أخاك جاهل وسفيه – أن تُعرض عنه، وأن تدفع سيئته بحسنتك. اقرأ قول الله تعالى: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً). {سورة الفرقان: 63}، وقوله سبحانه: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة. ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقّاها إلا الذين صبروا. وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم). {سورة فصّلت: 34، 35}. وقوله جل وعلا: (والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين). {سورة آل عمران: 134}.
إن الذي يحتكم إلى دين الله يبقى في دائرة الخير وفي ظلال رحمة الله، وإن كان اجتهاده مغايراً لاجتهادنا، وتجمعنا وإياه أخوّة الإيمان، وإرادة نصرة دين الله. (ولْيعفوا ولْيصفحوا. ألا تحبّون أن يغفر الله لكم. والله غفور رحيم). {سورة النور: 22}.