أولا – علم السياسة في أطره التاريخية:
في عام 1948 اعترفت منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة بعلم السياسة علماً مستقلا. ونصت في قرار الاعتراف على مضامين لهذا العلم الوليد كان منها: النظرية السياسية – النظم السياسية – التاريخ الدبلوماسي- تاريخ الأفكار..
ربما كان الأمر مختلفا أكثر في تاريخنا العلمي والثقافي؛ إلا إن الثقافة السائدة طغت على عقول الكثير من أبناء المسلمين، فغاب تراثنا السياسي تحت غبار الادّعاءات العملية المستعلنة بفعل القوة التي تعليها وليس بفعل الحق الذي فيها. حتى صرت تقرأ أو تسمع من كثير ممن يسمى رجال فكر أو علم بل دعوة أيضا ينبذ التراث العلمي السياسي في إطار الحضارة الإسلامية بالقلة، ويختزله ببعض العناوين والأبواب ويجترئ عليه بالجحد والتشويه والازدراء.
سنحاول في هذه الورقة -المحدودة- أن نعيد للتراث السياسي الإسلامي بعض حقه بالإشارة، على عجل، الى بعض تجلياته التاريخية كما ورد في سياقات فعلنا وفكرنا الحضاري والعلمي. سنشير بسرعة إلى مصادر أساسية تشكّل صرحاً حقيقياً لعلم معبر عن الممارسات العلمية والرؤى النظرية التي رسمت ملامح النظرية السياسية الإسلامية بشكل عام.
المصدر الأول: السير العملية للخلفاء والقادة والرؤساء:
فكم في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من فقه سياسي عملي؟! ثم كم في سير الأصحاب والقادة والخلفاء من بعد؟! والاستفادة من بعض هذه السير لا يقتصر على بعض المواقف الجزئية في المواجهة العملية للكثير من التحديات. إنما يمتد ليشمل المنهجية العملية الواقعية في التعامل مع الأحداث.
“السير” في عصور الإسلام المختلفة تنقل لنا فقهاً عملياً لقادة تحمّلوا مسئولياتهم في الرخاء والشدة وفي حال القوة والضعف. وفي الإقبال والإدبار. ويشكّل كل ذلك معين لا ينضب من مران العقل السياسي الذي تفتقده أجيال المسلمين هذه الأيام.
إنّ دراسة سيرة الناصر صلاح الدين كما خطها ابن شداد – مثلاً تعتبر مرجعا عملياً لشباب الأمة الذين لم يقرؤوا عن السياسة الإسلامية إلا في إطار مقررات فقيه يرى “صاحب الأمر ” دائماً قادراً مقتدراً يأخذ قراراته في فراغ.
المصدر الثاني- الوثائق والمعاهدات والاتفاقيات: “التاريخ الدبلوماسي”:
إذا نظرنا إلى الدولة المسلمة في كافة عصورها كدولة واحدة نستطيع أن نعثر في جملة الوثائق والمعاهدات والاتفاقيات مصدراً من مصادر الفكر السياسي، وشكلاً من أشكال الممارسة العملية للحياة السياسية في الإسلام.
سوف نبدأ من وثيقة المدينة ومعاهدة صلح الحديبية، وكُتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك من حوله، ثم سوف نمر على العقود والعهود التي عقدها الصحابة أيام فتوحاتهم.. والتي لم تلقَ حتى اليوم من المسلمين دراسة تليق بها. ثم سنجد الكثير في سفارات أمثال الماوردي والشاعر الغزال بين الدولتين العباسية والأموية في الأندلس وبين بيزنطة ودولة شارلمان.
يعتبر هذا التاريخ الغني والثر والمتعدد الأوجه صورة أخرى لمصادر الفكر والممارسة السياسية العلمية في تاريخ الإسلام. الممارسة التي يجب أن تكون رافداً مهماً في تشكيل العقل السياسي المسلم.. الذي دأب على النهل من معين المثاليات المرموقة في فضاء كتاب.. دون الانتباه إلى السياقات العملية لمقتضيات العمل السياسي وسط المتناقضات.
المصدر الثالث- الموسوعات الفقهية الكبرى وما في بطونها من أبواب:
كان محمد بن الحسن الشيباني أحد صاحبي الإمام أبي حنيفة قد أفرد أبواب الفقه السياسي تحت عنوان “كتاب السير ” وأصبح عنواناً معترفاً به لهذه المضامين من العلم. ولكننا سنجد أبواباً من هذا العلم منتشرة تحت عناوين عديدة للأبواب منها أبواب الجهاد والسلم والحرب والتعامل مع المعاهدين والمحاربين والعقود بأنواعها واختيار الإمام ومن يصلح للإمامة.. في علم متفرق في موسوعات تجد مثل ذلك في المجموع للنووي والمبسوط للسرخسي وغيرهم وغيرهم الكثير..
المصدر الرابع- الكتب المتخصصة في العلوم السياسية عند المسلمين:
في الإمامة والرئاسة والأحكام السلطانية والوزارة والشورى وأهل الحل والعقد..
المكتبة التي يختزلها البعض ويستقلها وينبذها على سواء، وهي ليست كما يقول البعض كتاباً ولا كتابين ولا عشرة ولا عشرات بل هي مئات الأسفار منتشرة على مدى خمسة عشر قرناً منها ما يعالج الاقتصاد كالخراج لأبي يوسف والأموال لأبي عبيد، ومنها ما يعالج الترتيب الإداري كالأحكام السلطانية للماوردي، ومنها ما يعالج النظرية السياسية العامة كالغياثي للإمام الجويني، ومنها ما يعالج علم الاجتماع كمقدمة ابن خلدون، ورؤيته التاريخية الفذة في تاريخه الطويل..
ولو اتسع المقام لسردنا ثبتا بأكثر من مائة عنوان في مقام واحد. الملاحظة القيّمة التي يجب أن نتوقف عندها أن هذه الكتب مع انطلاقها جميعاً من رؤية إسلامية موحدة، كانت بشكل من الأشكال انعكاساً عملياً لواقع العصر الذي كتب العالم فيه. فما كتبه فقهاء عصور القوة والمنعة والرخاء يختلف في روحه عمّا كتبوه في عصر الضعف والتردي والانحلال.
والذي نريد أن نخلص إليه في هذه الورقة شديدة الإيجاز؛ هو أنّ أمتنا تمتلك ثورة سياسية فقهية نظرية وعملية قمينة بأن تشكّل أرضية ومدخلاً لعقل إسلامي سياسي معاصر يمتلك محددات الرؤية الأولية، ويتعامل مع معطيات العصر بكامل الثقة والانفتاح.
وإنّ مكتبتنا السياسية الإسلامية ذاخرة، وأنّ سلفنا الصالح لم يقصّر أبداً في ميدان البحث والإبداع، وإنما نحن الذين قصرنا بالمتابعة والبناء على ما تم إنجازه.
وإنّ عصر الفكر السياسي المثالي المجرد، المبني في فراغ قوة مفترضة أو موهومة متخيلة، أو تحت قبة العزلة، قد ولّى، وأنّ على المسلمين أن يمتلكوا رؤيتهم وأدواتهم ليدخلوا عالم التدافع الذي هو مضمار العمل السياسي في كل مكان.
وإنّنا مطالبون بإعادة الدرس والاطلاع والتعلم ليس للتقمص والعيش في جلابيب القرون التي مضت كما يظن البعض، وإنما لنمتلك الدربة العقلية والعملية على فهم النصوص وعيش الواقع في عالم مزدحم للأضداد، يجتاح كل من يقف أمامه مثل أرزة صماء. وصلى الله وسلم وبارك على من شبّه المؤمن بخامة الزرع تفيئها الريح مرة هكذا ومرة هكذا.. ليبقى تشبيهاً مفتوحاً على الزمان والمكان.
_____________
زهير سالم – ورقة مشاركة في مؤتمر جماعة الإخوان المسلمين “أصالة الفكرة.. واستمرارية الرسالة”