ويشكل تصحيح معايير التفكير وحسن التقدير هماً عظيما للذين يدركون حقيقة البلاء الذي تعيشه الأمة اليوم بجماهيرها ونخبها على السواء.
منذ الخمسينات كتب الشهيد عبد القادر عودة رحمة الله رسالة صغيرة تحت عنوان ضخم “الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه” ما أصعبه يوماً ينضم فيه الجمع بعضهم إلى بعض، في موقف تبادلي أو شمولي يظلله العجز والجهل!!
وتختل قاعدة “أن الأحباب وأصحاب النوايا الطيبة يخطئون” في صدور أصحاب التوجهات المختلفة من تكوينات الناس في هذه الأمة. وارفع ما تشاء لهذه المكونات من عناوين..
ثم تمتد هذه القاعدة من الحاضر إلى عمق التاريخ في تقويم الأحداث على خلفية الأهواء، فكل حدث يقرأ من زاوية الشخص المنسوب إليه، وموقف أعين الرضا أو أعين الشك والتربص والسخط..
كل الناس يتفقون نظرياً على أنّ البشر غير معصومين. وأنّ الخطأ جائز عليهم، ويستثني المتدينون منّا الأنبياء عليهم السلام، ولكن عند التطبيق العملي ستجد أكثر الناس عملياً يدافعون ويسوّغون ويخرّجون وكأنهم يدعون عصمة من يحبون.
حتى ضرب المثل أصبحنا نخاف منه.. لأنّ ضرب المثل سيدخلنا في كل مرة إلى حيث لا نريد.. فكيف نستفيد من الأحداث، الصواب منها والخطأ، إن لم نقوّمها تقويماً موضوعياً دقيقاً لنعرف المدخلات والمخرجات. ولنفهم مثلاً كيف كانت مأساة كربلاء؟ وكيف انتصر جيش عبد الملك بن مروان على “ثورة القراء” أي الفقهاء الذين كانوا في جيش ابن الأشعث ومنهم الشعبي وسعيد بن جبير. وكيف احتل القرامطة الحرم المكي. وأسهل شيء نفعله نلعنهم. وعندما دخلوا الحرم المكي كان عندنا خليفة في بغداد. ولنفهم أيضا (ليش هيك عبصير معنا نحن السوريين).
ولاؤنا للثورة وللثوار لا يمنعانا عن البحث عن مراقي الفلاح ودركات الخسران والضياع.
أحياناً ينصرف الذهن تلقائيا إلى أحداث التاريخ الكبرى، وهذا ليس ببعيد عن المقصود. ولكن هل نتجرأ نحن السوريين مثلاً أن نقوّم أحداث تاريخنا القريب والأقرب؟! من يجرؤ أن يقارب الكثير من الملفات المحرمة؟ في الأدراج المقفلة بعناية وإصرار؟! ثم نتساءل ما بال الناس؟ ولماذا يغيب الرشد؟ ويتسفل الوعي؟!
تتقدم الأمم والشعوب والجماعات حين تظل تكد في ” لولبية صاعدة ” صعود فيه بطء، وفيه مشقة وفيه كد.. صعود يقوده وعي مخطط “من مكة جنوباً نحو المدينة” وليس شمالاً كما يقتضيه علم الجغرافيا وشبكة الطرق المعهودة آنذاك. مع التوكل على الله يبقى العقل يقظا. بل إن “حسن التوكل على الله يبقي العقل يقظاً” متوهجاً معطاء.
واللولبية المتسفلة هي أن يكون قانون نيوتن في الجاذبية هو القوة الوحيدة المؤثرة في حركة الناس. بل أن تنضاف إليه أحياناً دفع ابتدائي من هوى غالب أو دافع مستفيد.
فتنحدر الناس عن موقع كانت عليه إلى ما دون كجلمود صخر حطه السيل من عل. أو كانزلاق قطرة الندى عن ظهر التفاحة المعلقة على غصن تعابثه الرياح.
التسفّل هو الارتداد إلى أسفل سافلين -حسب تعبير القرآن الكريم، أو هو الإخلاد إلى الأرض حسب تعبير قرآني آخر..
أخطاؤنا الجمعية حين ندركها يمكن أن تكون مراقيَ للصعود. هذا أمر جدير أن نتعلمه، وأن نتعود عليه، وأن لا يستفزنا ولا يستنفرنا ولا ينفرنا..
(الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ) عنوان قرآني ثالث يتضمن في فضاءاته العلمية والإنسانية الكثير من الدلالات. ومن العزة بالإثم، العزة بأخطاء الوالدين والأقربين والعشيرة وأخطاء من نحبّ ومن نوالي وأخطاء الذات..
سهل الإقرار النظري بكل هذا الكلام.. ولكن أن يكون هذا خلقاً ومنهجاً وسبيلاً للخروج من وهدة السرديات وتراتيل قبل النوم.
وحين نتأهل لنتعلم أنّ أحبابنا قد يخطئون، وأنّ من نأبى قد يصيبون.. سنكون قد تعلمنا الخير الكثير..
وكم اختصرت علينا أمنا عائشة رضي الله عنها التوصيف حين وصفت رسول الله صلى الله وسلم عليه: كان خلقه القرآن..
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية