د. سمير صالحة
أهم إنجاز حققته جولة المفاوضات الحادية عشرة التي انطلقت قبل أيام في العاصمة الكازاخية أستانة بمشاركة البلدان الثلاثة الضامنة (روسيا وتركيا وإيران) وممثلين عن الحكومة والمعارضة في سوريا، بالإضافة إلى الأردن والأمم المتحدة بصفة مراقبين، كان حسب البعض هو ” التقدم الطفيف رغم كل الصعوبات” في ملف تشكيل اللجنة الدستورية.
جدول أعمال الأستانة كان يعد بترجمة ما قيل حول الأجواء الإيجابية في شمال سوريا بين أنقرة وموسكو، وبتقدم في طرح ونقاش ملفات كثيرة بينها إعادة الإعمار، وتثبيت وقف إطلاق النار في إدلب ومحيطها وترسيخ التفاهم التركي – الروسي حيال منطقة شمال غرب سوريا وحل موضوع تبادل الأسرى بين النظام والمعارضة. فخرج علينا المبعوث الأممي دي ميستورا ليعلن أن موسكو وأنقرة وطهران أخفقت في تحقيق أي تقدّم ملموس في التعامل مع ملفات أساسية تفتح الطريق أمام التسوية السياسية في سوريا.
بيان ختامي يكرر ما قيل في معظم الاجتماعات السابقة ويتمسك بالتزام الأطراف المشاركة بسيادة واستقلال ووحدة وسلامة أراضي سوريا، والوقوف ضد الأعمال التي تهدف إلى تقويض سيادة سوريا وسلامة أراضيها، وكذلك الأمن القومي للدول المجاورة، “ومواصلة الحرب ضد تنظيم داعش، وجبهة النصرة، والأشخاص المدرجين على قائمة مجلس الأمن الدولي للتنظيمات الإرهابية”. لكن الجبهات والتطورات العسكرية والميدانية والسيناريوهات السياسية التي تتقدم في أكثر من بقعة جغرافية سورية تقول العكس وأن هدف الثورة لإسقاط النظام يتراجع لصالح مشاريع التجزئة والتفتيت وتقاسم النفوذ الاقليمي والدولي على حساب اللاعبين المحليين ومصالحهم.
* بين النقاط الملفتة بعد يومين من لقاءات الأستانة:
الغياب الأميركي عن الاجتماع وكأن واشنطن كانت تعرف وتريد إيصال الأمور هناك إلى ما هي عليه الأمور اليوم. بعد ساعات فقط على انتهاء الاجتماعات أعلنت الخارجية الأميركية وصول الأطراف إلى طريق مسدود، وهي ربما لذلك لم ترسل موفدها الخاص لسوريا جيمس جيفري إلى العاصمة الكازاخية.
طبعاً لم يفشل لقاء الأستانة لأن واشنطن أرادت ذلك أو قاطعته لكن هذا لا يمنع من التذكير بالمواقف الأميركية المكررة أكثر من مرة “مسار أستانة لم يؤد سوى إلى مأزق في سوريا” والأهم من ذلك “أن روسيا وإيران تواصلان استخدام هذا المسار من أجل إخفاء رفض نظام الأسد المشاركة في العملية السياسية” برعاية الأمم المتحدة.
ثم هناك تناقضات الموقف الروسي بين ليلة وضحاها في تحديد مصالح موسكو وأهدافها في سوريا ومع من ستنسق من أجل ذلك. موسكو ترى أن الوضع في سوريا يتجه تدريجياً نحو الاستقرار، وأن لا صحة لأنباء تتحدث عن تحضيرات روسية لـ شن عملية عسكرية واسعة النطاق في إدلب”، ستعمل مع الجانب التركي من أجل حل هذه المشكلات بطرق سلمية، ولن نتحرك إلا للرد على الاستفزازات”. لكن موسكو نفسها تكشف النقاب وكما يردد البعض عن رغبتها بتوسيع دائرة البلدان المشاركة في منصة الأستانة وتكشف النقاب عن توجه لتوجيه دعوة إلى مراقبين من ثلاثة بلدان عربية للمشاركة في المحادثات هي لبنان والأردن والإمارات. هدف روسيا وحتى إشعار آخر هو إطالة عمر الأستانة ريثما تستوي الطبخة وتنتهي عملية خلط الأوراق وتكون واشنطن جاهزة لطاولة حوار ثنائي بينهما في رسم معالم الحل في سوريا.
طهران من ناحيتها ومن خلال منصة الأستانة تعلن فشل قمة اسطنبول الرباعية التي شارك فيها طرفان من ثلاثي آستانة وبغيابها، وتكرس عودتها إلى قلب المشهد السوري في العمليات الأمنية والعسكرية التي أشرفت عليها في الآونة الأخيرة في منطقة إدلب وحلب.
رسائل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كانت تقول “أنقرة وموسكو قادرتان على تغيير مصير الشرق الأوسط في حال اتخاذهما قرارات جادة.. أنا مقتنع اليوم بأن الرئيس الروسي يريد إنهاء المأساة في سورية”. التناقض التركي الأميركي، والروسي الأميركي، في ما يتعلق بسوريا، دفع موسكو وأنقرة لإعلان تفاهمهما الكلي في الأستانة. خيارات حليف أنقرة الأميركي المفترض في التعامل مع الملف السوري والمتعارضة كلياً مع ما تقول وتريد، هو الذي دفعها أكثر نحو بوتين. لكن القيادة السياسية التركية قلقة اليوم بسبب عدم معرفتها حجم المساومات الروسية الإيرانية والروسية الأميركية من وراء ظهرها في سوريا.
أما المعارضة السورية، فهي تكاد تكتفي بتسجيل ملاحظاتها حول وجود تطورات جديدة في ملف إدلب وبروز توافق تركي – روسي على التهدئة، والتمسك بخيار الأستانة المسار الفعال والوحيد حاليا في جهود حل الأزمة السورية. هل هذا يعني حقاً أن قيادات المعارضة فقدت الكثير من أوراقها وباتت تحت رحمة ما ستقوله الأطراف الاقليمية والدولية بعدما كانت تردد أن خياراتها وفرصها كثيرة على خط جنيف والرياض وسوتشي وواشنطن؟
فشلت الأستانة في إبعاد جنيف عن المشهد كبديل وخيار حقيقي. والقرار لم يعد فقط تركياً وروسياً وإيرانياً في سوريا، هناك إصرار إقليمي وعربي على العودة تحت المظلة الأميركية. السير نحو الأسوأ قد يسهل استرداد الشعب السوري لقراره وخياره.
طبعاً في هذه الأثناء هناك سيناريو آخر يتقدم شمال شرق سوريا وفي شرقها. ثلاثون ألف كردي سوري، يتم تجنيدهم وتسليحهم وتدريبهم ضمن قوات سوريا الديمقراطية. والهدف إعلان حدود داخلية جديدة داخل الحدود السورية ومركز الفصل فيها هو نهر الفرات شمالاً وشرقاً.
آخر ما بين أيدينا من تطورات صادمة نشرها معهد بحوث إعلام الشرق الأوسط «ميمري» ومقره واشنطن، ويقول إن طهران استغلت الحرب السورية لطرد سكان من مناطقهم بهدف استقدام آخرين من إيران إلى تلك المناطق، مما يؤكد نيتها في تغيير التركيبة الديموغرافية لسوريا. الرسالة هنا تعني مئات الآلاف من السوريين اللاجئين خارج أراضيهم لكنها تعني أيضاً الدول التي تستقبلهم لتتحرك باتجاه اتخاذ خطوات الرد على مشروع تمدد وانتشار وهيمنة إيرانية من هذا النوع.
خيبة أمل ربما بعد طيلة هذه السنوات من الثورة. الخيار الأنسب بعد فشل كل هذه اللقاءات والمؤتمرات والمنصات قد يكون العودة مرة أخرى إلى خط البداية .. التظاهرات والاعتصامات والهتافات والشعارات الديمقراطية الوطنية الحقيقية لاسترداد الثورة .
تلفزيون سوريا