د. أحمد موفق زيدان
تزامن الإعلان عن الانسحاب الأميركي من سوريا مع مكالمة طويلة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، بينما تزامن الإعلان عن الانسحاب من أفغانستان بلقاءات مباشرة بين ممثلي حركة طالبان الأفغانية والمسؤولين الأميركيين في دبي، وهي لقاءات جاءت بعد سلسلة اجتماعات ماراثونية في عواصم عدة، ليعقبه توجه وفد الحركة إلى طهران، وبحث الأمن والسلام في أفغانستان، بحسب بيان صادر عن «إمارة أفغانستان الإسلامية».
ثمة فروق بين المنطقتين بلا شك، ففي أفغانستان يوجد عنوان واحد للاحتلال والغزو على مدى 18 عاماً، حروب تعد اليوم أطول حروب أميركا خارج أراضيها، أما في الحالة السورية فثمة عناوين بريد متعددة، بينها روسية، وإيرانية، وأميركية، وغربية، وتركية، وووو، ولكن يظل الدور الباكستاني الأقوى عملياً وفعلياً في أفغانستان، ولكن دور يعمل بصمت رهيب دون ضجيج، استطاع خلال سنوات طويلة الانقلاب على طالبان، والتحالف مع 49 دولة، ثم دار مائة وثمانين درجة فدعم بصمت حركة طالبان الأفغانية وقاوم كل الضغوط الدولية الرهيبة عليه، مستغلاً حاجة أمنه القومي إن كان بوجود حركة بشتونية على حدوده تتشاطر عرقية واثنية واحدة مع شعبها الذين يصل عددهم إلى 40 مليون بشتوني باكستاني، بالإضافة إلى استخدام هذه الورقة في مواجهة تحركات عنصرية انفصالية بلوشية مدعومة من قبل خصوم باكستان الأميركيين، والهنود، والروس، والإيرانيين، وهو ما يتشابه إلى حد كبير مع الحالة التركية في الملف الكردي.
وفي الوقت الذي لم تلتفت باكستان وطالبان للإعلان الأميركي عن الانسحاب ولم تتعاط معه بجدية، ولا على أنه حقيقة مسلمة، راحت طالبان -وقد تكون بدعم باكستاني- تواصل عملياتها العسكرية ضد الحكومة الأفغانية المدعومة أميركياً، وتداولت وسائل إعلام أميركية معروفة النجاحات الطالبانية العسكرية في أفغانستان، إذ بلغت نسبة المديريات الأفغانية التي تسيطر عليها الحركة أكثر من 61%.
ويجدر بالذكر أن عدد المديريات الأفغانية يصل إلى 387 مديرية، منتشرين في 34 ولاية أفغانية، بينما بالمقابل كان تعامل الطرف الآخر في سوريا مع الإعلان الأميركي بجدية فتم وقف العمليات العسكرية التركية المخططة لمهاجمة منبج، لينتظر المزيد من التفاصيل، بينما أي خطة لأي مشروع يخلق فراغات وفرصاً كان ينبغي الاستفادة العاجلة منها قبل أن يعاود استقراره مجدداً، وهو ما حصل حين غير الرئيس الأميركي موقفه، وبدأ يتحدث عن انسحاب بطيء ومتدرج، قد يصل إلى أربعة أشهر، بل وتتحدث التقارير عن انتشار مستشارين إماراتيين ومصريين في منبج، وإحلال قوات عربية فاصلة وحاجزة بين العصابات الكردية والحدود التركية.
الانتشار الأميركي شرق الفرات واتخاذ الفرات حدوداً طبيعية، ثم حجم الإنفاق الرهيب على القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة لا يشي أبداً بأن واشنطن ستنسحب في المستقبل المتوسط منها، ولعل شخصية مثل ترمب تتخذ قرارات سريعة وربما اعتباطية ثم تتراجع عنها، تخدم الاستراتيجية الأميركية في إرباك الخصوم بالمنطقة، وهو ما حصل في الإعلان عن الانسحاب من سوريا، بينما لم يحقق أهدافه في أفغانستان، نظراً لخبرة الأفغان والباكستانيين في دهاليز السياسة الأميركية ومطباتها، ومن جلس في أفغانستان لـ 18 عاماً قدم فيها آلاف القتلى ومليارات الدولارات كيف له أن يتخلى عن منطقة كسوريا بهذه السرعة وبهذه السهولة، متخلياً عن حلفائه ليس لخنق الثورة السورية وإنما لخنق تركيا معها.
في هذا العالم الذي تتكاثر فيها الذئاب والضباع لا بد من ردّ الحجر من الحجر الذي انطلق منه، كما قال السيد المسيح عليه السلام، وتكتيكات العالم كله اليوم تستند إلى استخدام ممثلين غير حكوميين كالميليشيات المسلحة، لا سيما إن كان الأمر هجيناً بين دعم ميليشيات وتوفير الدعم الحكومي لها، كما يحصل في ميليشيات طائفية أو عرقية كالعصابات الكردية مدعومة من أميركا وغيرها، وهي حرب أقل كلفة وقد ثبتت فاعليتها، لنتذكر كيف استطاعت باكستان -ولا تزال- تجنب مواجهة مع دول كبرى وإقليمية لاعتمادها على جماعات إسلامية كطالبان وغيرها في مواجهة جماعات انفصالية مدعومة من قوى كبرى وإقليمية.