الإخوان المسلمون في سورية

أمنُ الثورة.. الأمن والقرآن الكريم (3)

(تأصيل شرعيّ)

نستمر في هذه الحلقة أيضاً، بتلاوة بعض نصوص القرآن الكريم (بعينٍ أمنية)، لتوضيح بعض الأسس والمفاهيم الأمنية الواردة في دستور الإسلام العظيم، وهو كلام الله عزّ وجلّ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونستعرض فيما يأتي بعض القصص القرآنيّ الذي يؤكد على أهمية العمل الأمنيّ في حماية الثورة والدعوة الإسلامية وأبنائها المؤمنين المخلصين الصادقين، وحماية الأمة المسلمة من عدوّها المتربّص بها!..
*     *     *

أصحاب الكهف: عِظاتٌ أمنيةٌ.. وقصةٌ تتكرّر كل يوم

الصراع بين الحق والباطل متعدد الوجوه، فأهل الحق والدعوة الربانية مُستَهْدَفونَ على مدار الساعة، وأهل الباطل والطغيان في كل حينٍ يتربّصون بأبناء الدعوة الإسلامية، يرومون النيل منهم والقضاء على دعوتهم، بالقضاء عليهم.
مَنْ هم أولئك الفتية، الذين تميّزوا عن قومهم الذين لفّهم الضلال والظلم والظلام من كل جانب؟!..
((.. إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً)) (الكهف: من الآية 13).
إنهم حملة اللواء إذاً، لواء الإيمان، في وجه الظلم والطغيان الصادر عن أولئك الجبارين الذين حكموا بغير ما أنزل الله، فَضَلّوا وأضلّوا، وتحكّموا بمصائر الناس الذين تحوّلوا إلى عبيدٍ لهم.. لكن أولئك الفتية الصادقين ثاروا على الظلم والقهر، واستطاعوا بحنكتهم وعقولهم النيّرة أن يتدبّروا أمر حماية أنفسهم، لحماية دعوتهم وإيمانهم، فماذا فعلوا؟!..
((إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً)) (الكهف:10).. إنّه اللجوء إلى المكان (الآمن)، وقبل ذلك، الإيمان الصادق بالله عزّ وجلّ، وتسخير النفس في سبيل دعوته، فبعد اتخاذ كل أسباب (الحماية والأمن)، واستكمال شروط التوكّل على الله سبحانه وتعالى.. لجأوا إليه:
((ربّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رحمةً، وهيّء لنا مِنْ أمرِنا رَشَداً)) .
فهم يعلمون ببصيرة إيمانهم أنّ الحماية والأمن لا يُطلَبان إلا من الذي يملكهما، فلجأوا إليه وحده، وطلبوهما منه وحده!..
بعد كل ذلك.. بماذا قابلهم ربهم العزيز القدير؟!..
((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ..)) (الكهف: من الآية 14).. أي قوّيناهم بالصبر على هجر الأهل والأوطان، لأنهم فعلوا ما عليهم فعله ضمن حدود القدرة البشرية، فأمددناهم بالقدرة الإلهية، حمايةً، ورعايةً، وأمناً، ورشداً، ونصرة!..
هذه الخطة (الأمنية) لم تأتِ من فراغ، إنما كانت ثمرة بحثٍ وحوارٍ بين الفتية، الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله.. إلى أن توصّلوا إلى الحل الأمثل، والقرار الحكيم:
((وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً)) (الكهف:16).. ولأنهم كانوا مع الله، ويعيشون لدعوتهم، تيقّنوا أنّ الله عزّ وجلّ هو الذي سيحفظهم، ويُعمي عنهم أعين الجبارين وأنصارهم:
((.. ينْشُر لكُم ربُّكُم من رحمتِهِ، ويهيّء لكُم من أمرِكُم مِرْفَقاً)).
فالله وحده (أولاً وآخراً) هو الذي يسهّل الأمور، وهو الذي ييسّرها، وهو الذي يحمي ويصون، فَبِقَدَرِهِ وقُدْرَتِهِ يسير كل شيءٍ في هذا الكون!..
ونام الفتية في مأواهم الجديد (الكهف) مئات السنين:
((فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً)) (الكهف:11).
ثم أيقظهم الله جلّ وعلا.. وبعد أن أيقظهم، هل تغيّرت حالة (الحذر) في نفوسهم بعد مضي كل تلكم السنين الطويلة؟!..
يخبرنا الله عزّ وجلّ في كتابه العظيم، أنّ هاجس (الأمن) و(حماية النفس والجماعة والدعوة) لم يتغيّر في نفوسهم، على الرغم من مرور كل تلك المدّة الطويلة!.. فقد مرت تسعٌ وثلاث مئةٍ من السنين، من غير أن يُكشَفوا أو يُكشَف مكانهم وأمرهم، وفي هذا دلالة عظيمة على حكمتهم وحُسنِ تخطيطهم (الأمنيّ) في حماية أنفسهم وحماية دعوتهم، طوال تلك السنون!..
((وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ..)).. ((.. قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً)) (الكهف: من الآية 19).
إنّه (الحذر)، و(الحيطة)، و اتخاذ أسباب (الحماية) بكل حزمٍ وصرامة، مع الاستمرار والعمل الدؤوب على تحقيق (أمن) الدعوة من كل مكروه، بذكاءٍ ودهاءٍ لا بد منهما لكل من يريد أن يسيرَ في ركب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى!.. وقد جاءت الكلمات الشريفة في غاية الدقة والدلالة المباشرة، على الحالة الأمنية التي لا تقبل التهاون أو الاسترخاء:
((.. وليتلطّف))!.. أي ليدقق النظر حتى لا يُعرَف وتُعرَف شخصيته! ثم: ((.. ولا يُشعِرَنَّ بكُم أحداً))!.. أي لا يدع أحداً من الناس كائناً من كان، أن يعلم بمكانكم، فيكشفه، ثم يكشفكم، ومن بعد ذلك يقع الخطر الأكيد!.. وما هو هذا الخطر الأكيد؟!..
((إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ..))!.. (الكهف: من الآية 20) .. نعم، هذه هي حال الطواغيت الجبارين في كل زمانٍ ومكان.. فإن اطّلعوا عليكم، وعلموا بمكانكم وإيمانكم، وبدعوتكم.. فلا سبيل عندهم، ولا وسيلة لديهم، إلا القتل: ((يرجُموكُم))!.. أو.. أو ماذا؟!
((.. أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً))!.. (الكهف: من الآية 20).. إنه الحل الآخر المرّ لديهم (الطواغيت)، وهو أن يجبروكم على العودة إلى دينهم وكُفرهم، بعد كل تلك السنين من الصبر والجهاد والتضحية والمعاناة في سبيل الله عزّ وجلّ، وفي سبيل الدعوة التي آمنتم بها وأكرمكم الله بحمل لوائها، وبذلك كله ستخسرون الآخرة، بعد أن خسرتم الدنيا!.. فماذا أنتم فاعلون؟!..
لا خيار إذاً.. إما الاستمرار في طريق الدعوة حتى تحقيق الأهداف المرجوّة، مع اتخاذ كل الأسباب (الأمنية)، التي تحمي هذه الدعوة ورجالاتها ومجاهديها.. وإما العودة إلى حياة الكفر ودين الطواغيت الظالمين، وإلى مَنهج الأرباب المزيَّفين، وحياة الذلّ في الدنيا.. ثم إلى عذاب الله وسخطه وعقابه في الآخرة.. فما أعظم العبرة، وما أبلغ الدرس!..

د. محمد بسام يوسف