د. أحمد موفق زيدان
إنما تنهزم الأمم بالانتحار الداخلي، وإنما تنهزم الثورات بأكل بعضها ونحر شبابها بعضهم بعضاً، لا تنهزم بقوة أعدائها وخصومها، ولا تنهزم ببطشهم العسكري مهما تعاظم وانتفش، وهي سيرة الثورات قديماً وحديثاً، ما دامت الثورة روح تسري بين المنتفضين، وما دام الظلم والجرم قد حلّ بالجميع، فغدا الثأر أكبر مما يحتمله طاغية أو احتلال، وقد حدّثنا القرآن الكريم عن أسباب الهزيمة، فقال: «قل هو من عند أنفسكم»، وهي معادلة في غاية الوضوح والدلالة.
ما يجري اليوم بسوريا، وقد قدّمت مئات الآلاف من الشهداء وملايين المشردين والمعتقلين، بينما لا يزال العالم المجرم يدعم ويصمت ويتواطأ مع القتلة المجرمين، ويستعد لتعويمهم، وتلك هي سيرته الأولى والنهائية، جرائم ومجازر تتقازم أمامها كل جرائم الإرهابيين قديمهم وحديثهم، ومع هذا نرى أنه لا يزال هناك من بين الثوار الشرفاء من يسعى إلى تحقيق انتصارات وهمية شخصية وحزبية وأيديولوجية، على حساب ما تبقى من الثورة في الشمال المحرر، بعد أن صمت تماماً عن تسليم معاقل الثورة في الغوطة والقلمون وريف حمص ودرعا.
لا بد من تحييد الأيديولوجيا في اتفاقاتنا، وتحديداً في هذه المرحلة الخطيرة والعصيبة من عمر الثورة الشامية، ولا بد من التركيز على الجغرافيا والحفاظ عليها، ومقاومة العصابة الطائفية واسترداد ما تبقى من سوريا المحتلة، فكل الأحاديث التي تجري، والمفاوضات التي تتم، والمشاريع التي تُطرح، لا معنى لها ولا مستقبل، ما لم يتم الحفاظ على الجغرافيا، وقد رأينا تراجع أداء هيئة التفاوض تماماً بعد سقوط معاقل الثورة في درعا وريف حمص وغيرها، وكفى سخرية بالعمل الثوري والسياسي، حين يتم اللهث وراء أكاذيب وسراب ثبت كذبها وخطئها على مدى سنوات من عمر الثورة، فعلى الجميع -عسكريين وثواراً ونخباً- المحافظة على ما تبقى من جغرافيا الثورة وتعزيزها وتقويتها، بطرح إدارة مدنية موحدة، ولتكن في البداية إدارتين، إدارة لإدلب وريفها، وأخرى لمناطق غصن الزيتون ودرع الفرات، نظراً لظروف المنطقتين المختلفة، وبالتالي منح المنطقتين فترة من الزمن لإدارة أعمالهما والتنسيق فيهما بينهما، ريثما يتم إيجاد إدارة موحدة لهما.
إن العدو لن يفرّق بين الثوار السوريين مهما اختلفت أيديولوجياتهم وأفكارهم، ما دامت أيديولوجية الانشقاق عن النظام هي ما يجمعهم، ليتعالَ الجميع على الجراح الرهيبة، وأهمها جراح ما سيأتي، فهذه العصابة لن ترحم أحداً انتفض عليها، وما يجري لثوار درعا والغوطة -الذين وثقوا بالعصابة فسلموا أنفسهم إليها- دليل على ما نقول، وليضع الثوار أيديهم بأيدي بعضهم، وليكفّوا ألسنتهم عن بعضهم بعضاً، وليعظموا المتفق عليه، وليقزموا المختلف فيه، وإلا فهي التهلكة الحقيقية لهم، ولثورة انتفضوا من أجلها، وقدموا من أجلها أعز ما يملكون وسيملكون.
إن ما يتعرض له أعداء الثورة في داخلهم وعلاقاتهم الدولية، وما أصابهم من انتكاسات وانتكاسات، يذكرنا بقول الله تبارك وتعالى: «إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون»، وما علينا إلا اهتبال فرصة آتية لا محالة، وهي انشغال أعدائنا وخصومنا بظروف صعبة سيتعرضون لها داخلياً وخارجياً، فليس هناك من حكم مستبد يقوى على استمراره بدعم خارجي إلى الأبد، وما علينا إلا مواصلة عضّ الأصابع ولكن بشكل جماعي وليس متفرقاً، لمواصلة درب الانتصار الذي شقّه من سبقونا إليه في ثورة العز والكرامة والحرية.