برهان غليون
بعد الهزائم القاسية التي تعرّضت لها التنظيمات التكفيرية المتطرّفة، خرج قادة “داعش” وهيئة تحرير الشام و”القاعدة”، في وقت واحد، للإعلان عن استمرارهم في العمل التخريبي الذي كرّست له المنظمات الثلاث جهودها في السنوات الطويلة الماضية في المشرق العربي، والذي كان من نتيجته تثبيت الحكم الطائفي المذهبي في بغداد، وتقديم الذريعة المطلوبة لتأليب الرأي العام العربي والعالمي ضد الثورة الشعبية السورية، ومشروع الديمقراطية عموماً في المنطقة العربية، وزرع الخوف من جديد في الدول الكبرى من أي تغيير أو انتقال سياسي في الشرق الأوسط، وتخليد الحروب الداخلية التي تمزّق شعوبه، واستدعاء التدخلات والحروب الخارجية التي تتّخذ من الحرب ضد الإرهاب وسيلتها لإجهاض أي حركة تغيير، أو تقدّم، داخل المنطقة، وربما تغيير خريطتها الجيوسياسية والديمغرافية.
ليس من المؤكد أن هذه المنظمات صنيعة مباشرة لأجهزة الأمن التي تستخدمها، أو تستفيد منها في البلدان المختلفة، لتبرّر أعمالها، لكن أحداً لا يمكن أن يُنكر أنها عملت في السنوات الماضية حليفاً، شرعياً أم ابن زنى، للتحالف المعادي للثورة، وكانت بمثابة الخنجر الذي غرز في ظهر الحركات الشعبية والديمقراطية العربية. ولا يغيّر شيئاً من هذه الواقعة إن كان ذلك نتيجة التقاء المصالح في تدمير الدول القائمة، وزرع الفوضى واليأس عند الشعوب، أو بسبب الاختراقات الكبيرة والأكيدة التي نجحت أجهزة الأمن الإقليمية والدولية في إحداثها فيها. فليس هناك أدنى شك في أن خطط هذه المنظمات ومشاريعها كانت تسير في تناغم واسع مع خطط الثورة المضادة واستراتيجياتها. لكن الدول الغربية والشرقية التي تتخذ من هذه المنظمات ذريعةً لتبرير الحظر الذي تفرضه على ولوج الشعوب العربية عصر الحرية والديمقراطية والسلام والتقدّم، ليست بريئة أبداً. فهي التي صنعت، بسياساتها الاستعمارية واستهتارها بمصالح الدول والشعوب، ودعمها النظم الاستبدادية، بل فرضها حكومات ظالمة وجائرة وحمايتها والدفاع عن سقطاتها وجرائمها، ومثالها الفاقع حكومة الأسد، المستنقع المنتن الذي نشأت فيه وترعرعت هذه النبتة الوحشية السامة.
وإذا كانت هذه المنظمات لا تزال، بعد ما عانته من هجماتٍ “مميتةٍ”، بحسب الروس والأميركيين، تتجرأ على تهديد الجميع، وتستطيع أن تستعيد المبادرة من جديد، فذلك لأنها تدرك أن فشل الدول التي ادّعت محاربتها في التوصل إلى حلول دائمة وعادلة في المنطقة، وفي سورية الملتهبة بشكل خاص، يترك لها هامش المناورة واسعاً، كي تستعيد أنفاسها وتستمر في حربها التخريبية الدائمة. فهي تعيش في الحرب، وتتغذّى منها، والسبب الرئيسي لاستمرار الحرب في المنطقة هو اليوم تنازع الدول على السيطرة ومناطق النفوذ وتقويضها استقرار الدول والشعوب الضعيفة، وتخلّيها عن التزاماتها الدولية، وتنكّرها لقرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية التي حوّلتها إلى كلمات فارغة، ومعها القانون الدولي والتضامن الإنساني والأمل بمستقبل خالٍ من الاستبداد والاستعباد والعدوان.
يتخذ هذا التحليل أهمية خاصة اليوم، على ضوء المواجهة الجديدة المنتظرة في محافظة إدلب السورية التي يبحث فيها الروس، وأداتهم الأسد، عن ذريعة للهجوم على المحافظة، والسيطرة عليها، بصرف النظر عن النتائج الكارثية على السكان، ودول الجوار المهدّدة باستقبال ملايين اللاجئين الجدد، بل ربما من أجل ذلك. بينما تسنّ هذه المنظمات المتطرّفة أسنانها، معتقدة أن إدلب ستكون فرصتها لتكبيد خصومها هزيمة سياسية وأخلاقية منكرة، إن لم تكن هزيمة عسكرية، وبالتالي استعادة بعض ما فقدته من رصيدٍ وصدقيةٍ استراتيجية. وهي تراهن لتحقيق هذا “النصر” على استخدام المدنيين درعا لها، وتحدّي خيار التجرؤ على قتلهم وتهجيرهم من قبل خصومها.
ليس هناك حل لمسألة الإرهاب الذي يطاول المدنيين بتضخيم الإرهاب المضاد والمزاودة على المنظمات المتطرّفة بالقتل بالجملة، أو بإظهار الاستعداد لقتل عدد أكبر من المدنيين، كما حصل في السنوات الماضية، حيث تمّت التضحية بمدن ومحافظات كاملة، من أجل إجبار “داعش” وأخواتها على الانتقال من مكان إلى مكان، ونقلها أحياناً في حافلاتٍ رسمية روسية وغير روسية، ومنها ما كان مكيّفاً، من محافظة إلى محافظة، واستخدامها، كما حصل أيضاً في السويداء هذا الشهر، للضغط على السكان المدنيين والتسليم له، من خلال تقصّد إيقاع مئات الضحايا بين المدنيين. لا يمكن ربح الحرب على الإرهاب بالمزايدة على الإرهابيين في قتل المدنيين. بالعكس، هذا هو ما يغذّي شجرته، ويعزّز صفوفه. وهو الذي يوفّر لهم المناخ والبيئة ومنابع الحقد والكراهية وحب الانتقام التي يحتاجونها لتبرير أفعالهم الشنيعة.
لا يمكن محاربة الإرهاب باستخدامه ذريعة لتمرير أهداف أخرى، لا صلة له بها، كمقاومة الانتفاضات الشعبية والاحتجاجات الطبيعية للجماهير المهمّشة، أو الفاقدة للأمل، والخائفة من المستقبل. ولا يمكن محاربة الإرهاب باستخدام وسائله نفسها، وتحويل الدولة إلى عصابة، ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية إلى ميلشيات إرهابية مضادّة، أي بتقويض الدولة وتفريغها من مضمونها القانوني والأخلاقي، وربما إلى غير رجعة، والتشريد السياسي لملايين البشر.
لن يقلّص القضاء على بعض عناصر “تحرير الشام” لقاء تدمير إدلب على رؤوس سكانها، والتضحية بملايين المدنيين، وتدمير شروط بقائهم، قاعدة الإرهاب والتطرّف، ولن يساعد على حصاره، ولكنه سيقدّم له بالعكس المستنقع الآسن والضغائن الظاهرة والدفينة التي يحتاجها كي يستمر ويتكاثر.
الحل الوحيد لمحاصرة التطرّف والقضاء على الإرهاب هو العمل الجدّي على إيجاد الحلول السياسية التي تعيد توحيد الشعوب والمجتمعات، وتمكّنها هي نفسها من لفظ التطرّف ورفض الإرهاب والعمل على مكافحته. وهذا للأسف ما تحاول موسكو، برفضها الانتقال السياسي الذي نصّت عليه قرارات الأمم المتحدة، وأولها 2254، وإصرارها على بقاء الأسد بأي ثمن، أن تحول دونه.
من دون مشاركة المجتمعات نفسها في محاربة التطرّف، ومحاصرة الإرهاب، لن يكون هناك أي أمل في القضاء عليهما. ولا يمكن كسب مشاركة المجتمعات إلى هذه القضية، باستخدام القصف الجوي المكثف على قراها ومدنها، وتدمير بيوتها على رؤوس ساكنيها. ولا يمكن تقليص قاعدة التطرّف والإرهاب، بتجاهل المشكلات الحقيقية، والتنكّر للمطالب الحقة والتلاعب ببعض النخب الانتهازية، والإصرار على حسم الصراع على السلطة، وتوزيع الموارد بالقوة العسكرية. ولا تعزيز الميول السلمية والتصالحية، والتفاهم داخل الشعوب والمجتمعات بالدفاع حتى آخر سوري عن نظام أثبت إفلاسه، وفرضه بالقوة على شعبٍ عانى منه الأمرّين، وكان السبب الأول وراء دمار بلاده، وقتل الآلاف، وتشريد الملايين من أبنائه. وهذا بصرف النظر عن حجم المصالح القومية الروسية، وشرعية أو عدم شرعية تحدّي موسكو على حساب السوريين السياسات الغربية، كما هو الحال في سورية منذ سنوات.
اللهم إلا إذا كان الهدف من محاربة الإرهاب هو بالعكس تخليد الإرهاب نفسه، وزجّ الشعوب في حروب داخلية، لا مخرج منها، وتقويض عوامل الألفة والانسجام والتفاهم بين أعضائها، من أجل السيطرة على مواردها أو التحكّم بموقعها.
العربي الجديد