سعيد الحاج
ذكر موقع جيرون الإخباري أمس الثلاثاء، نقلاً عن مصادر حكومية تركية، أن وفداً أمنياً تركياً أجرى اجتماعات مع وفد أمني سوري في العاصمة الروسية حول المنطقة الآمنة في الشمال السوري واتفاق أضنة الموقع بين البلدين عام 1998. جاء ذلك بعد يوم واحد من حديث الرئيس التركي على قناة التلفزة التركية الرسمية (TRT) عن علاقات “بمستوى منخفض” بين بلاده والنظام السوري على مستوى أجهزة الاستخبارات، وبعد أيام من عودة الحديث عن اتفاقية أضنة.
وكانت الاتفاقية وردت أولاً على لسان الرئيس الروسي خلال زيارة أردوغان الأخيرة إلى موسكو، ثم تحدث عنها أكثر من مسؤول تركيا، في مقدمتهم أردوغان الذي دعا إلى “إعادة تقييمها”، ما فتح الباب على تخمينات متعلقة بإعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق التي قطعت في بدايات 2012.
والحقيقة أن طرح بوتين للاتفاقية لا يخرج كثيراً عن هذا الإطار، فهو يعمل مؤخراً بشكل حثيث على إعادة تأهيل النظام والأسد شخصياً، وتركيا في مقدمة الرافضين التعامل معهما والمُصِرِّين على نفي الشرعية عنهما، فضلاً طبعاً عن بحث موسكو عن بدائل لفكرة المنطقة الآمنة التي تلفظ بها ترمب ورحبت بها تركيا ولكن لم تتحمس لها روسيا، لدرجة أن مصطلح المنطقة الآمنة لم يرد أبداً على لسان الرئيس الروسي في إطار إجابته على سؤال حولها.
في هذا الإطار، تبدو روسيا وكأنها تبحث عن حل وسط يرضي تركيا، ولكن يحول دون إعلان منطقة آمنة في الشمال السوري، وهو ما أدى فيما يبدو إلى طرح اتفاقية أضنة للنقاش مجدداً. فالاتفاقية المبرمة عام 1998 تضمنت تعهدات سورية واضحة، مثل رفع الغطاء عن حزب العمال الكردستاني ومنع أي عمليات له ضد تركيا انطلاقاً من الأراضي السورية ومنع تسلسل مسلحيه منها للداخل التركي، وأعطت أنقرة، في المقابل، الحق في الدخول ومكافحة هذه العناصر حين تفشل أو تتقاعس دمشق عن الالتزام بمسؤولياتها.
هذا “التعاون” المتضمن في الاتفاقية بين أنقرة ودمشق يبدو أحد أهم أهداف بوتين من إعادة طرح الاتفاقية على طاولة النقاش، بما يعنيه ذلك من فتح قناة مباشرة بين الطرفين واعتراف أنقرة بشرعية الأسد ونظامه ضمناً، إن لم يكن صراحةً، فأين تقف تركيا من كل ذلك؟
لا شك أن مواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا هو أولوية تركيا في مقاربتها للقضية السورية، وهي الأولوية التي دفعتها لإطلاق علميتين عسكريتين خارج حدودها والتهديد بثالثة شرق نهر الفرات.
ولا شك في أن النظام يبدو في هذه المرحلة تحديداً عدواً مشتركاً للحزب وشريكاً لتركيا في رفض مشروعه الذي يتراوح بين التقسيم والفدرلة والإدارات الذاتية. ولذلك تتردد في مقالات عدد من الكتاب الأتراك وبين سطور مقولاتهم؛ دعوات للتعاون مع النظام باعتباره الضمانة الأكبر لتركيا في تأمين وحدة الأراضي السورية ورفض المشاريع البديلة، وفي مقدمتها مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي.
لكن منطق القيادة السياسية يختلف عن هذه التقييمات، أولاً لأن المصالح المستهدفة أو المفترضة من التعاون مع النظام تحققها تركيا من خلال روسيا أو عبر “التواصل متدني المستوى” الذي تحدث عنه أردوغان، وثانياً – وهو الأهم – لأن التعاون المباشر مع النظام يلحق بها ضرراً أكبر بكثير من المصالح متوقعة.
ذلك أن التواصل المباشر والتعاون الوثيق بين الطرفين يعني إعطاء أنقرة المشروعية للنظام، وهو أمر يضعف من أوراق قوتها في الملف السوري ويُخضع كل تحرك مستقبلي لها فيه لموافقة النظام السوري، فضلاً عن أنه سيضع الوجود العسكري التركي على الأراضي السورية موضع النقد والرفض، وربما المطالبة بالرحيل بعد أن يصبح النظام “الشرعي” هو صاحب الحق في تحديد من هو شرعي ومن هو غير ذلك فوق أراضيه.
بينما ترتاح تركيا أكثر للعلاقة مع روسيا وإبقاء النظام ثانوياً في ذلك، وهي التي استفادت بالتأكيد من منحها صك شرعية تواجدها في سوريا من قِبَلِ بوتين مؤخراً، وإن كان من باب اتفاقية أضنة.
ولذلك، تؤكد تركيا في أكثر من منبر وعلى لسان أكثر من مسؤول؛ أن نظام الأسد ما زال فاقداً للشرعية بالنسبة لها، ولن ينال أي نظام ذلك إلا بعد انتخابات حرة ونزيهة تأتي بعد حل سياسي يتوافق عليه السوريون، حيث أكد الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين على أن نظام الأسد “فقد شرعيته بالنسبة إلينا، ولا مستقبل له”، بينما اشترط وزير الخارجية تشاووش أوغلو عودة علاقات بلاده مع النظام بـ”إجراء انتخابات ديمقراطية وعادلة”، بينما ختم أردوغان المقاربة التركية حين قال إنه ينبغي إبقاء “خيط ما حتى مع الأعداء، فقد يلزم يوماً ما”.
لكل ما سبق، كان تفاعل أنقرة مع طرح بوتين لاتفاقية أضنة مرحِّباً بها على قاعدة “إعادة التقييم” وليس “التطبيق المباشر”، باعتبار أن الظروف اليوم مختلفة تماماً عما كانت عليه حين توقيعها قبل 20 عاماً، وهي مقاربة تحيل إلى التعديل والتطوير وليس التفعيل المباشر.
ولعل من أهم ما تحاول أنقرة تجنبه التعامل المباشر و/أو رفيع المستوى مع النظام، وبالتالي منحه شرعية لم تعترف بها طوال السنوات الفائتة، وهو سلوك تركي غير مرشح للتغيرات الدراماتيكية في المستقبل القريب ما لم تحصل مفاجآت كبيرة، أما المديان المتوسط والبعيد فرَهْنٌ بعدة عوامل ومعطيات سياسية وأمنية وعسكرية تصعّب من إمكانية التكهن وتجعل الجزم أمراً مستحيلاً إلى حد كبير.
“عربي21”