الإخوان المسلمون في سورية

الإسلام الوسطيّ

ثمة مصطلحات فرضت نفسها على الساحة الفكرية والسياسية، وصارت محل جدل: ما المقصود بها؟ وما شرعيتها؟..
ومشكلة الموضوع أن الله عز وجل أنزل ديناً سمّاه الإسلام، فيه العقيدة القويمة، وفيه التربية الأخلاقية الراقية، وفيه أنظمة الحياة الكاملة المتكاملة: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية… ثم وُجد عبر العصور عامة، وفي عصرنا هذا خاصة، فئات مختلفة تقدّم فهوماً مختلفة للإسلام، بحسن نية أو بغير ذلك. ولعل هذا ما حدا بالإمام الشهيد حسن البنا أن يخصص فقرة في “رسالة المؤتمر الخامس” تحت عنوان: “إسلام الإخوان المسلمين” يبيّن خلالها أنه لا يقصد أن للإخوان إسلاماً غير الذي أنزله الله، لكن فهوم الناس للإسلام قد تفاوتت، واقتضى ذلك أن يبيّن فهم الإخوان المسلمين للإسلام.
كما أن الشهيد سيد قطب عقد فصلاً تحت عنوان: “إسلام أمريكاني” في كتابه: “دراسات إسلامية” يردّ فيه على من يخترعون للإسلام فهماً خاصاً ليوائموا به بين الإسلام الحق وبين ما يرضي الثقافة الغربية، بل ليطوّعوا به الإسلام الحق حتى يلائم تلك الثقافة.
وفي عصرنا الذي نعيش نجد علماء السلاطين الذين يطوّعون الإسلام لما يرضي سلاطينهم، ونجد كذلك، المبهورين بثقافة الغرب، يقدّمون الإسلام الأمريكاني بطبعات منقّحة ومزيدة، ونجد كذلك الذين آذاهم التسطيح الذي أتى به علماء السلاطين، والانفلات الذي وصل إليه أصحاب الإسلام الأمريكاني، فكانت ردة فعل بعضهم أن غالوا وهم يؤكدون نقاء الإسلام وتميّزه، فوقعوا في فهوم أقرب إلى مذهب الخوارج، وزاد الطين بلّة أن هؤلاء لم يكتفوا بأن يطرحوا مفاهيمهم، بل كان في أيديهم سلاح تمكنوا به من فرض هذه المفاهيم التي كفّروا بها مخالفيهم، واستباحوا دماءهم. وقد حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الغلوّ فقال: “إياكم والغلوّ في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدين”. رواه النسائي وابن ماجه، وصححه الألباني. وكما عمل علماء السلاطين والمبهورون على تشويه صورة الإسلام النقية، عمل مثلَ ذلك وأكثر منه، الغلاةُ المتطرفون.
الإسلام الوسطي ليس موقفاً في نصف الطريق بين الإيمان والكفر، كلا، بل هو موقف وسط بين الغلاة والمتغرّبين، بين من ينبهرون أمام مدنية الغرب ويجعلون معيار التقدم تقليد الغرب في قيمه ومفاهيمه، وبين من يحجرون على المسلم أن يفيد من كل مفيد، بين الذين يهملون الدنيا بحجة العمل للآخرة، وبين الذين يوغلون في الأخذ من زينة الحياة الدنيا غافلين عن الله ولقائه.
كلما أوغلت حكومات المسلمين في عمالتها للغرب، وتنكّرها للإسلام، ومحاربتها أهل الإسلام… نشأت موجةٌ بين المسلمين الذين يرجعون إلى دينهم ويتمسّكون به أكثر، وكان من بين هؤلاء فئة، مهما تكن ضئيلة، مؤهّلة للغلوّ تتوجّه نحو التيارات المتطرّفة.
ومما يفاقم الأمر أن تجد بعض الجهات المعادية للإسلام بُغيتها في هؤلاء الغلاة فتدسُّ فيهم عناصر مدرّبة، تتظاهر بالتدين، بل في التطرف في التدين، ويكون هؤلاء مادة للإيغال في الغلو، ثم لارتكاب الجرائم باسم الإسلام، لتشويه هذا الدين والتنفير منه. ولا بد أن يجد هؤلاء المندسّون مَن ينجذب إليهم من الشباب المخلص فينجرف في جرائم الغلو، وهو يحسب أنه يُحسن صنعاً.
وإن الغلو في جانب، يؤدي إلى غلو مضادّ.
ومحاربة الغلو بالطرق الأمنية قد تُجدي قليلاً، وعلى المدى القريب، وبالصورة الظاهرة فحسب. أما اجتثاثه فيكون بقطع أسبابه، أي بنشر علوم الشريعة والفكر المعتدل، وتأكيد ذلك في المجتمعات، حتى يرى الغلاة أنفسَهم معزولين، لا يجدون تربةً يتكاثر فيها غلوهم. وهذه الحقيقة يعرفها أعداء الإسلام ولذلك يعملون على توفير أسباب الغلو حتى يضربوا أبناء المجتمع المسلم بأبنائه: فريقٌ يغلو، وفريق يحاربه. ويزداد الغلاةُ غلوّاً، ويزداد أعداؤهم حرباً لهم، وتتساقط الضحايا، ولا يفتأ أعداء الإسلام يغذّون هؤلاء وهؤلاء، ويصفقون لهم كلما أوغلوا في حرب بعضهم بعضاً، ويحاربون أصحاب الفكر المعتدل، ويضيّقون عليهم، وينقلبون عليهم كلما سنحت لهم الفرصة.
وأمام هذا وذاك راحت جماهير من الأمة تتطلع إلى من يدعو إلى الإسلام الحق، بعيداً عن انتحال المبطلين وتحريف الغالين، وراحت تتردد عبارة “الإسلام الوسطي”، على أنها تمثل هذا الإسلام الحق. وكانت الحاجة إلى بيان المراد بهذا الإسلام الوسطي، وإلى دعاة واعين مخلصين ينشرون في المجتمعات مفهوم الإسلام الوسطي ومقتضياته، عبر جميع الوسائل المتاحة، من منابر الجمعة إلى الكتب والكتيبات والمطويات ووسائل النشر الإلكتروني… والوسيلة الأهم من كل هذا الاحتكاك بجماهير الأمة والحوار معهم، والصبر على ما يلحق هؤلاء الدعاة من أذى في سبيل ذلك.
ومن الواضح أن هذه التسمية تستأنس بقوله تعالى: ((وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً)).
كما أن من الواضح أن هذه التسمية لا تعني الوقوف في منطقة وسط بين الإسلام والجاهلية، ولا تعني التدسّس إلى الثقافة الغربية لتقول لأهلها: إسلامنا لا يختلف عما أنتم عليه، بل تعني أن الإسلام الذي ندعو إليه هو الإسلام الذي فهمه جُلُّ أئمة المسلمين المشهود لهم بالخيرية والعدالة، وأن ما اتفقوا عليه هو الذي ندعو إليه ونتمسك به، وأن ما اختلفوا فيه فهو في المنطقة الرمادية، لا نتعصب له، ولا نرفضه، بل نتخيّر منه ما نراه الأقرب للصواب، والأصلح للعصر.
في الإسلام الوسطي تأكيد لوحدانية الله تعالى في ربوبيّته، وفي ألوهيته، وأن الأمر كله لله.. ((إن الحكم إلا لله. أمر ألا تعبدوا إلا إياه. ذلك الدين القيّم، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون)). {يوسف: 40}.

القرضاوي والوسطية:

في الاجتماع الذي عقده المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في مدينة “دبلن” بتاريخ 31/12/2003، حدّد الشيخُ الدكتور يوسف القرضاوي، وهو من أشهر علماء هذا العصر، أهم ضوابط المنهج الوسطي قائلاً: “يقوم تيار الوسطية على جملة من الدعائم الفكرية، تبرز ملامحه وتحدد معالمه، وتحسم منطلقاته وأهدافه، وتميزه من غيره من التيارات، تتمثل فيما يأتي:
1 ـ الملاءمة بين ثوابت الشرع، ومتغيرات العصر.
2 ـ فهم النصوص الجزئية للقرآن والسنة، في ضوء مقاصدها الكلية.
3 ـ التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة.
4 ـ التشديد في الأصول والكليات، والتيسير في الفروع والجزئيات.
5 ـ الثبات في الأهداف، والمرونة في الوسائل.
6 ـ الحرص على الجوهر قبل الشكل، وعلى الباطن قبل الظاهر، وعلى أعمال القلوب قبل أعمال الجوارح.
7 ـ الفهم التكاملي للإسلام بوصفه: عقيدة وشريعة، دنيا وديناً، ودعوة ودولة.
8 ـ دعوة المسلمين بالحكمة، وحوار الآخرين بالحسنى.
9 ـ الجمع بين الولاء للمؤمنين، والتسامح مع المخالفين.
10 ـ الجهاد والإعداد للمعتدين، والمسالمة لمن جنحوا للسلم.
11 ـ التعاون بين الفئات الإسلامية في المتفق عليه، والتسامح في المختلف فيه.
12 ـ ملاحظة تغير أثر الزمان والمكان والإنسان، في الفتوى والدعوة والتعليم والقضاء.
13 ـ اتخاذ منهج التدرج الحكيم، في الدعوة والتعليم والإفتاء والتغيير.
14 ـ الجمع بين العلم والإيمان، وبين الإبداع المادي والسمو الروحي، وبين القوة الاقتصادية، والقوة الأخلاقية.
15 ـ التركيز على المبادئ والقيم الإنسانية والاجتماعية، كالعدل والشورى والحرية وحقوق الإنسان.
16 ـ تحرير المرأة من رواسب عصور التخلف، ومن آثار الغزو الحضاري الغربي.
17 ـ الدعوة إلى تجديد الدين من داخله، وإحياء فريضة الاجتهاد من أهله، في محله.
18 ـ الحرص على البناء لا الهدم، وعلى الجمع لا التفريق، وعلى القرب لا المباعدة.
19 ـ الاستفادة بأفضل ما في تراثنا كله: من عقلانية المتكلمين، وروحانية المتصوفين، واتباع الأثريين، وانضباط الفقهاء والأصوليين.
20 ـ الجمع بين استلهام الماضي، ومعايشة الحاضر، واستشراف المستقبل.
* * * * *
ونجد أن هذه النقاط العشرين ترسم بالفعل معالم الإسلام الوسطي الذي ينبغي أن ندعو إليه، ونظن أن شعوبنا تؤمن به وتتوق إلى من يحمله ويعمل به.
ويمكن أن نزيد أسطراً، تزيد الأمر وضوحاً:
من الوسطية أن نقف موقفاً متسامحاً من الاجتهادات المختلفة، الصادرة عن أهلها، سواء في فروع العقيدة، أو في الأحكام الفقهية، فلا نستهجن أو نحقّر قولاً صدر عن العلماء الموثوقين، سواء كان القول الذي نرتاح إليه أشدّ مما قاله أولئك العلماء، أو كان أكثر تساهلاً وترخصاً.
للمسلم أن يأخذ لنفسه القول الذي يترجّح لديه أو يرتاح إليه، ولكن ليس له أن يحمل الآخرين عليه، أو يتهجّم عليهم إذا لم يأخذوا به، ما دام كل ذلك دائراً في أقوال أئمة العلم.
هناك مسائل اختلف فيها العلماء: هل هي مكفّرة تخرج من الملّة أم أنها معصية فحسب؟ وهناك شروط لصحة بعض الأعمال والتصرفات، اختلف العلماء في هذه الشروط زيادة ونقصاناً… وللمسلم أن يختار لنفسه من الآراء والأقوال ما يرتاح إليه، وليس له أن يحمل الآخرين على اختياره. نعم لإمام المسلمين أن يفرض اجتهاده في الأمور العامة ويحمل الناس عليها، وليس ذلك لآحاد المسلمين ولو كانوا من الأئمة المجتهدين.

محمد عادل فارس