محمود عثمان
لا تزال أصداء إعلان الرئيس دونالد ترامب قراره سحب القوات الأمريكية من سوريا تتفاعل على أكثر من صعيد، ليس فقط بسبب ما أحدثه من حراك سياسي وعسكري جعل دول المنطقة والقوى المعنية بالأزمة السورية تبذل جهوداً إضافية لاستجلاء حقيقة النوايا الأمريكية، وفهم طبيعة التغيير الذي طرأ على الاستراتيجية الأمريكية بخصوص منطقة الشرق الأوسط عموماً وسورية خصوصاً، وإنما بطرح فكرة تأسيس منطقة عازلة في الشمال السوري بعمق 20 ميلاً، تساهم في طمأنة تركيا وتحقيق أمنها الاستراتيجي، وتفصل بينها وبين الميليشيات الانفصالية شريك الأمريكان في الحرب على تنظيم داعش.
رغم الترحيب التركي بفكرة المنطقة العازلة فإن تفاصيل تطبيقها يبدو أكثر أهمية من أصل الفكرة نفسها، حيث يكمن الشيطان بين التفاصيل كما يقال. لكن حتى الأمريكان أنفسهم ليس لديهم خطة واضحة ترضي جميع الأطراف أو أكثرهم على الأقل. إذ يبقى جواب السؤال الأكثر إلحاحاً، من سيملأ الفراغ الحاصل عن الانسحاب الأمريكي، ويدير هذه المنطقة عسكرياً، دون جواب شاف حالياً.
* المراحل والمنعطفات الرئيسية في التعاطي الأمريكي مع الأزمة السورية
المرحلة الأولى: مرحلة دعم وتبني المعارضة السورية
في البداية أبدت الولايات المتحدة الأمريكية ترحيباً كبيراً بالربيع العربي، وسمته نهوضاً ويقظة لشعوب المنطقة، التي سئمت الاستبداد وتاقت لاستنشاق نسائم الحرية. ولا يزال صدى كلمات المديح وعبارات الثناء على الربيع العربي من الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما حاضراً في الأذهان، وخصوصاً وصفه الثورة المصرية بأنها “مصدر إلهام لشعوب العالم”.
لكن الترحيب والدعم الأمريكي لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما تكسرت أمواجه عند شاطئ الاتفاق النووي مع إيران، حيث أغمض أوباما عينيه وصم أذنيه، وأصبح لا يرى منطقة الشرق الأوسط إلا من ثقب العلاقة مع إيران وملفها النووي !.
المرحلة الثانية: التخلي عن المعارضة السورية لحساب الاتفاق النووي مع إيران
عقب الإنجاز الكبير الذي حققه أوباما بالوصول إلى الاتفاق مع إيران بخصوص ملفها النووي، وانصراف الأخيرة كلياً إلى منع نظام بشار الأسد من السقوط، بدأت الإبرة الأمريكية تميل نحو نفض اليد من المعارضة السورية والتخلي عن دعمها. بل وصل الأمر بأوباما إلى درجة التخلي عن خطوطه الحمراء التي أعلنها بنفسه، بالسكوت عن استخدام الأسد للسلاح الكيماوي ضد المدنيين في الغوطة وغيرها، معرّضاً هيبة الامبراطورية الأمريكية وسمعتها لاهتزاز الثقة والمصداقية، بالرضوخ لدكتاتور صغير.
الاستدارة الأمريكية في هذه المرحلة بلغت أوجها عندما وصف أوباما قيادة المعارضة السورية بأنهم فلاحون أغرار، لا يفقهون شيئاً بأمور السياسة وإدارة البلاد.
المرحلة الثالثة: تسليم الملف العسكري في سورية للروس
توقع كثيرون أن يجري الرئيس الصقوري “الجمهوري” الجديد ترامب تغييرات جذرية على سياسة بلاده بخصوص الأزمة السورية. وقد عضد هذه القناعة الضربات العسكرية الثلاثية التي وجهتها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، لمواقع للنظام السوري، رداً على هجوم كيماوي استهدف مدينة دوما، بغوطة دمشق الشرقية. لكن سرعان ما تبين أن هذه الضربة كانت استعراضية، وأن ترامب يسير على خطى أوباما شبراً بشبر.
لم يكتف ترامب باتباع نهج سلفه أوباما، بل أعطى الضوء الأخضر للروس للتدخل عسكرياً في سورية، وفوّضهم بإدارة الصراع ضمن أسس لا تُهمّش الولايات المتحدة، وتأخذ في الحسبان أمن “إسرائيل”، وتضمن بقاء توازن القوى لحين إنضاج حل سياسي يلائم الأطراف الدولية والإقليمية.
بالتعبير الأدق، دفع الأمريكان الروس إلى الساحة السورية من أجل تنفيذ ما يسمى ب ” المهمة القذرة” التي تعني البطش بالجميع، وإنهاء حالة الاشتباك العنيف، تمهيداً للبدء بالعملية السياسية، لكن ليس إلى درجة الحسم العسكري التام وإعلان النصر كما كان يشتهي بوتين، فقد تم إيقاف زحفه على إدلب آخر معقل للمعارضة، فاضطر للتوقيع على اتفاق سوتشي.
المرحلة الرابعة: العودة إلى الملف السوري مجدداً من خلال العملية السياسية.
بعد استخدامهم الفيتو ضد الحسم العسكري في إدلب، ذهب الأمريكي لجهة التقارب مع أنقرة بهدف تهيئة الأجواء للعودة لمسار العملية السياسية.
يزعم الأمريكان أن موسكو فشلت في سورية لأنها تمادت في ترجيح كفة النظام السوري على حساب المعارضة التي مارست ضدها حرباً ضروساً بدأتها في حلب وما زالت مستمرة فيها حتى الآن، ورهانها على الأسد ونظامه. ثم الغرور الذي أصاب الرئيس بوتين وجعله مقتنعاً بأن الآمر الناهي في الشرق الأوسط. والعامل الثالث، هو اعتماد موسكو على طهران بشكل رئيسي، وعدم رغبتها في تحجيم الدور الإيراني إلى المستوى الذي تريده الولايات المتحدة.
رسالة مزدوجة وجهتها واشنطن إلى موسكو: أولاً، أن سقف النفوذ الروسي محدود في سورية وليس مطلقاً، وأن على روسيا العودة إلى قواعد اللعبة وأصولها بين الكبار. وثانياً، أن لا حل في سورية إلا عبر المسار التفاوضي في جنيف، أي وفق المعايير الأممية التي رسمها مجلس الأمن الدولي في بيان جنيف1 وفي القرار الأممي 2254، وأن سلسلة اجتماعات “أستانا” ومؤتمر “سوتشي” ليسا الحل، وكل ما يصدر عنهما هو هامشي مهما حاولت روسيا التشبث بهما.
المرحلة الخامسة :إعلان واشنطن عن استراتيجيتها في سورية
بعد ضغوط شديدة من الكونجرس، أعلنت إدارة الرئيس ترامب خطتها الاستراتيجية حول سورية. اعتمدت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في سورية التي تقوم على محاربة الإرهاب (داعش)، وتحجيم الدور الايراني، والبدء بالعملية السياسية.
في 14 كانون الثاني/ يناير 2018، أعلنت واشنطن عزمها على تشكيل قوة عسكرية في سورية قوامها 30 ألف مقاتل، من ميليشيات (قوات سورية الديمقراطية- قسد)، لتنتشر على طول الشريط الحدودي مع تركيا شمالاً، وعلى الحدود العراقية إلى الجهة الشرقية الجنوبية وبموازاة نهر الفرات. لكن واشنطن اضطرت أمام ضغوط أنقرة إلى التراجع عن فكرة تشكيل القوة العسكرية في الشمال السوري.
بعد ثلاثة أيام فقط، وتحديداً في 17 كانون الثاني/ يناير 2018، أدلى وزير الخارجية الأميركي تيلرسون بتصريح، جاء في منزلة إعلان واضح ومباشر للاستراتيجية الأميركية فيما يخص سورية والمنطقة خلال المرحلة المقبلة.
قال تيلرسون إن القوات الأميركية ستبقى في سورية لمواجهة (داعش) ونظام الأسد وإيران، واعتبر ذلك “مصلحة وطنية”. وتُعدّ هذه أول مرة تُصرّح فيها واشنطن بأن هناك مصالح أميركية كبرى في سورية وأنها مستعدة للدفاع عنها.
المرحلة السادسة :إعلان الرئيس ترامب الانسحاب من سورية
استراتيجية التوازنات التي انتهجتها تركيا في علاقاتها الخارجية آتت ثمارها، فقد بدأت واشنطن تنظر إلى العلاقات التركية- الروسية بمنظور الخشية العالية، لأن هذه العلاقة بدأت تتجاوز حدود التعاون والتنسيق التكتيكي، إلى مستوى التحالف الاستراتيجي، وهذا يتعارض استراتيجيتها الكونية الجديدة.
لذلك عمدت إلى تهدئة مخاوف أنقرة، فأعطت الضوء الأخضر لعملية غصن الزيتون ليتم تحرير عفرين من مليشيات بي كا كا/ ي ب ج الإرهابية الانفصالية، ثم أتبعتها بفيتو ضد العملية العسكرية التي كان الروس والايرانيون والنظام ينوي شنها لإنهاء الوجود العسكري للمعارضة السورية في إدلب، مما أفسح المجال أمام أنقرة لترتيب اتفاق سوتشي مع موسكو.
كما أن إعلان ترامب الانسحاب من سورية كان بمثابة رفع الغطاء عن ميليشيات بي كا كا/ ي ب ج، وتركها وجها لوجه أمام تركيا، فإن إعلانه عن المنطقة الآمنة هو بمثابة طلقة الرحمة على مشروع إنشاء كيان انفصالي في شمال سورية.
أما تهديد ترامب بحرب اقتصادية مدمرة ضد تركيا، فهو حفظ لماء الوجه أمام الرأي العام من جهة، وإعلان عن تجنيب السلاح والمنطق العسكري في التعامل مع الأزمة، وهي رسالة على قدر كبير من الأهمية.
الكاتب بيرجان توتار كتب في جريدة صباح : “يعتقد ترامب أن الولايات المتحدة غرقت في حروب هامشية منذ 11 سبتمبر 2001 أهدرت فيها القوة والمال والاعتبار، عوضاً عن منافسة خصميها الرئيسيين روسيا والصين، ولهذا فإن ترامب يعلن من خلال قراره الانسحاب من سوريا أن الحرب على الإرهاب انتهت. لكنه عملياً وبمجرد مجيئه للسلطة، قام بسحب “سي آي إيه” من سورية في يونيو 2017، والآن يسحب البنتاغون أيضاً”.. ” بعد دراسة كل الاحتمالات، لم يتخل ترامب عن “ي ب ج” مطية البنتاغون فحسب، بل إنه بدأ يدير ظهره للسعودية و”إسرائيل”. أمريكا بوش وأوباما تعرضت لهزيمة استراتيجية تاريخية على يد تركيا، مهما اعترض المعترضون. وترامب هو أفضل من لاحظ هذه الحقيقة”.
* في المحصلة
نجحت الدبلوماسية التركية في إقناع الرئيس الأمريكي ترامب بأن التعامل مع ميليشيات إرهابية خطأ استراتيجي فادح، وأن تركيا الحديثة ليست مثل تركيا القديمة. تركيا الحديثة والقوة الإقليمية الصاعدة، التي تنتج 80% من سلاحها، أصبحت رقماً صعباً لا يمكن تجاهله أو تخطيه في منطقة يتم رسم خارطتها الجيوسياسية من جديد.
الأناضول