ازدواجية الدين والسياسة ليست ابنة العصر..
وإذا كانت العلوم قد نشأت منذ القدم في أحضان الدين وتحت كنف السلطة بأنواعها. فإن علم السياسة الرسمي كان يقدم نفسه منذ أقدم العصور على أنه علم: الاحتفاظ بالسلطة. أو فن السيطرة على الشعوب.
ولن نعجب كثيرا حين نسمع إماما مثل ابن تيمية حين يؤلف كتابه في السياسة الشرعية ينعى على أقوام زعموا أن العمل بالشريعة وحدها لا يمكن أن يعين على الحفاظ على الدولة. وأن كلمة العمل بالسياسة وضعت كمقابل للعمل بالشريعة. وأنه أي ابن تيمية قد وضع كتابه “السياسة الشرعية” ليبين أن السياسة الشرعية المشتقة من القواعد العامة للشريعة يمكن أن تلبي كل احتياجات “الراعي والرعية ” الأول في الضبط والأخرى في العدل.
ومع عصر النهضة الأوربي دخل العالم في مرحلة أخرى من تكريس الفصل بين الدين والدولة أو بين السياسة والأخلاق. الحالة التي كان لها معطياتها في عالم الغرب من خلفيات دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية. والتي بنيت أساسا على تحالف الكنيسة مع القصر والإقطاع.
وإذا كانت الازدواجية التي أشار إليها الإمام ابن تيمية رحمه الله في ظل حضارة المسلمين تعلقت بالوسائل والأساليب، فإن ما طرح في عالم الغرب أولا وما آل إليه الأمر آخرا، راح يتعلق بالمرجعيات ليس فقط الدينية بل الفطرية والأخلاقية مما اصطلح على تسميته بالقانون الطبيعي.
وحسب قانون الضغط الفيزيائي في صورته الحضارية كان لا بد للأقوياء أن يلعبوا دور المؤثر في حياة الضعفاء وفي اختياراتهم وهكذا انتقلت فكرة فصل الدين عن الدولة أو عن السياسة، إلى عالم الضعفاء ومنها عالمنا الإسلامي الذي صحا مذعورا على موجات من الغزو الأوربي وتراكمات من الهزائم على أكثر من صعيد.
الأقوياء يتماسكون..
وإذا كان من سنن القوة والضعف أن الضعفاء ينهارون أمام الصدمات ؛ فإن من هذه السنن أيضا أن الأقوياء يتماسكون. وكان من سنة الله في هذه الأمة أن يكون مناط القوة فيها، في الاعتصام بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. هذا الموقف الذي مثله جيل من علماء الإسلام وقادتهم الفكريين وكان في مقدمة هؤلاء الإمام الشهيد حسن البنا ومن حف به من جيل المؤسسين في “جماعة الإخوان المسلمين ”
حين يؤرخ البعض لتأسيس جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928 يربطها مباشرة بإلغاء الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك سنة 1924 وهو رابط حقيق لا يخلو من وجاهة تلقائية مباشرة في التحليل والتفسير..
ولكن الفهم السياسي الأعمق للحدث يقتضينا أن نبحر أعمق في الواقع الديني والاجتماعي والسياسي للمسلمين. وما آل إليه أمرهم تحت تأثير عاملين سلبيين..
الأول تراكمات من الفهوم المحلية القاصرة أو المختزلة للإسلام مثلتها بشكل عام مدارس العزلة والتسليم القدري والانكفاء على الذات، والرضا عنها، ونبذ الأخر والتعلق بصغائر الأمور وسفاسفها.. والثاني انبهار بالقيم والتعاليم والتقاليد الوافدة من بلاد القوي المتغلب، الذي جعل البعض يعتقد أن الخلل في العقيدة وفي المنهج وفي الشريعة وليس في الإنسان..
لقد كان عمر هذا المخاض حين تحرك الإمام الشهيد بدعوته قد تجاوز عقودا من الزمان. بل لن نبعد إذا أرخناه بدخول نابليون الغازي ارض مصر 1798. والذي تكرس مرة ثانية باحتلال الانكليز مصر 1882.
لم يأت النداء الذي وجهه الأمام البنا إلى جماعة الإخوان المسلمين من فراغ، ولم تضع صرخته ولله الحمد في واد. ولو أردنا أن نبحث عن أسباب ثقافية مباشرة تعكس حال الأمة الذي اقتضى نداءه فقد نجد فيما كتبه “علي عبد الرزاق ” عن الإسلام وأصول الحكم 1925 سببا لصيقا، أو فيما كتبه طه حسين في الشعر الجاهلي 1927 سببا متمما، ثم فيما تجرأ عليه طه حسين نفسه في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر ” 1937 سببا تابعا مكملا لرؤية التيار الإسلامي ومسيرته.
صياغة جديدة لحقائق خالدة..
قلنا إن الإمام البنا لم ينطلق من فراغ. ولكنه عمل على سد ثغرات الواقع الإسلامي المترنح تحت متراكمات من الإفراط والتفريط في حياة المجتمع الذي هو مهما قلنا فيه، يبقى هو الوارث الأخير لعنوان الإسلام وعقائده وشعائره وشرائعه..
كما عمل الإمام البنا السائر على خطا سابقيه من جهة أخرى، على التصدي للعاصفة الخارجية التي كان من أهدافها أن نقتلع من حياة المسلمين العقيدة والشريعة والثقافة وكل ما يمثل هويتهم العامة كما نصطلح على تسميته في هذه الأيام..
فكر جماعة الإخوان المسلمين، أو الفكر السياسي لجماعة الإخوان المسلمين كما جاء به الإمام الشهيد حسن البنا أو كما مارسه في حياته الدعوية القصيرة هو نفسه الفكر الإسلامي الأول. الذي ظل سائدا في عقول وقلوب النخبة الراشدة من أبناء المسلمين على مر العصور.
وحين نرى الأمام البنا يركز أو يؤكد على بعض المعاني في شعائر الإسلام فهو لا ينسى كليات الإسلام وشموله إنما يركز على ما هو مفتقد ومضيع أو ملتبس على الناس في حياة جيل من المسلمين يعايشه ويرتجيه.
حين يصبح الإسلام بلا دولة..
وحين يحاول البعض أن ينكر على الإسلام أن تكون له دولة، أو أن يشرعن هذا الوضع من التسيب في حياة المسلمين في مثل ما كتبه علي عبد الرزاق في كتابه ” الإسلام وأصول الحكم ” منكرا الظل الواقعي الإسلامي في أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية لا شك أن نسمع البنا يؤكد أن الإسلام مصحف وسيف ودين ودولة.
لقد قدم الإمام الشهيد رحمه الله تعالى للمسلمين أجمع وليس فقط لجماعة الإخوان المسلمين، الصياغة الجامعة لكليات الإسلام في رؤية عصرية منهجية تعتمد القواعد العامة على صعد الحياة الفردية والجماعية والمجتمعية.
رؤية منهجية تمتاز بالشمول والاستيعاب والتيسير والتعاون والتجاوز والإعذار وحسن المقاربة وجميل الموازنة والريث والبعد عن الغلو والإفراط والتفريط والوقوف عند الصغائر..
وطرح الإمام البنا رحمه الله انطلاقاً من واقع اجتماعي كان هو أدرى به مقاربات عملية للتقدم بحياة المسلمين نحو إسلامهم على صعيد الفرد والأسرة والمجتمع والدولة..
وأرسى قواعد التعامل الشفاف وفق الرؤية المبصرة مع الموافقين والمخالفين على السواء..
قعّد رحمه الله القواعد، وفتح الآفاق، ونهج السبل، واستفاد مما احتاج إليه من وسائل وأدوات مشروعة..وسار في طريقه على خطاً مبصرة حتى كان من أمره ما كان.
الثابت والمتغير في الفكر السياسي لدى دعوة الإخوان المسلمين:
يبقى الإسلام بعقائده ومبادئه وشعائره وشرائعه هو الثابت المطلق في فقه جماعة الإخوان المسلمين..
وحين نتحدث عن ثابت مطلق أول في فضاء العقل والقلب فإن هذا لا يلغي مقاربات فقه الواقع في عالم تتزاحم وتتدافع فيه الأضداد.. ويتكاثر فيه المتداعون على الإسلام والمسلمين..
لقد مثلت الفترة الأولى من عمر الدعوة 1928-1948 مرحلة من حياة الدعوة في ظل مؤسسها، كانت لها خصوصياتها الدعوية والثقافية والسياسية ببعديها الخارجي والداخلي..ولقد اقتضت هذه المرحلة أولوياتها المتعددة التي ما لبثت أن تجاوزت بعضها تقدم الحركة والتطور الاجتماعي العام.
إن استشعار المتغيرات والإحساس بها وسرعة التكيف معها هو بعض عناصر النصر الذي يعين صاحبه على تجاوز الملمات. إن أخطر ما يواجه الأفراد والحركات هو أن يظل البعض يعتقد إنه ما زال في مربعه الأول يردد بعض الأفكار والشعارات. انتصارات كثيرة حققتها جماعة الإخوان المسلمون خلال عمرها المديد فمثلا كتاب علي عبد الرزاق لم يعد يذكر إلا كتاريخ. ومستقبل الثقافة في مصر لم يعد يقرأ عند السواد العام إلا للاستهجان. وطوى التاريخ لويس عوض وسلامة موسى وجمال عبد الناصر ودعوات الفرعونية والفينيقية والأشورية والكتابة بالعامية وغيرها من الدعوات الهدامة كثير.
إن أقسى ما تواجهه الدعوة الإسلامية في إطارها العام اليوم هو انشقاقها على نفسها تحت عناوين وأسماء وبين تنظيمات وممارسات ومبعث كل ذلك أو معظمه هو فقدان المنهجية العلمية في فهم الإسلام وفي تقديم الإسلام وفي تحديد الأولويات وفي إعادة رسم الخطوات..
الضرورة الأولى اليوم في إعادة فقه المقاربات في فهم أجيال الحركة الإسلامية. والفهم المتمسك بالنص في إطاره الواقعي وليس في فراغه التاريخي. النص كما تعاملت معه مدرسة راسخة من الفهم الشرعي على مر العصور..
ولعل من أهم هذه المنطلقات إعادة الاعتبار للفقه الإسلامي وللممارسة التاريخية الإسلامية. إعادة الاعتبار لمنهج الفهم وليس لمنهج الخضوع الفراغي للأحكام.
تحديات كبيرة أمام مدرسة البنا بين يدي مرور قرن على تأسيسها. تعتبر هي أول من يسأل عنها، لأنها ما تزال الأكبر في ساحة العمل الإسلامي ونسأل الله أن تظل.. وأن يعيننا عليها وأن ييسرنا جميعا لليسرى…
________________
زهير سالم
ورقة مقدمة لمؤتمر جماعة الإخوان المسلمين “أصالة الفكرة..واستمرارية الرسالة”