د. باسل الحاج جاسم
ظهر الكثير من التعليقات بعد قمة طهران التي استضافت الاجتماع الثالث لرؤساء الدول الضامنة لاتفاق آستانة (روسيا، وتركيا وإيران) أوائل أيلول (سبتمبر) الجاري، من دون التوصل إلى اتفاقٍ يجنّب منطقة خفض التصعيد الرابعة والأخيرة في محافظة إدلب مصير المناطق الأخرى، أشار معظمها إلى «نهاية مسار آستانة السوري».
فقد أصرّت تركيا على ضرورة احترام الاتفاق الخاص بإدلب حيث يعيش قرابة أربعة ملايين مدني نازحين من مناطق سورية أخرى، أما روسيا فرفضت أي دعوةٍ إلى وقف إطلاق النار، أو إعطاء مزيدٍ من الوقت للتوصل إلى تسويةٍ سياسية، في إطار سعيها، مع طهران، إلى إعادة المنطقة إلى سيطرة النظام السوري، وإنهاء وجود المعارضة العسكرية فيها، قبل البحث في أي حلٍّ سياسي للصراع في سورية.
نشأ مسار آستانة السوري، بعد توافق روسي- تركي، بدأ بإنهاء معركة حلب الشرقية في كانون الأول (ديسمبر) 2016، وإجلاء فصائل المعارضة عنها، وانضمّت إيران إلى هذا المسار بعد أن فشلت في عرقلته أول الأمر.
إلا أن قمة سوتشي بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين أظهرت أن التعليقات المذكورة لا أساس لها من الصحة، فقد صدر عن القمة قرار بأن تفرض تركيا وروسيا معاً الاستقرار في إدلب، وهو ما سيعني، الحيلولة دون سقوط ضحايا مدنيين في المدينة التي لجأ إليها أكثر من 3.5 مليون شخص، وبالتالي منع موجة نزوح جديدة ستسبب مشكلات اقتصادية واجتماعية جديدة لتركيا ودول الاتحاد الاوروبي تمهيد الطريق أمام التخلص من العناصر المتطرفة، وتكون بذلك أنقرة عززت المنطقة العازلة بين حدود تركيا وشمال سورية، إضافة إلى إبعاد إيران خطوة عن عملية الحل في سورية.
وكشف وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أنه بموجب الاتفاق سيتم الحفاظ على حدود محافظة إدلب، وأشار في مؤتمر صحافي في مقر الخارجية التركية في أنقرة حول تفاصيل أكثر عن اتفاق سوتشي، إلى أنه سيتم فتح الطريقين الدوليين بين محافظتي حلب وحماة، ومحافظتي حلب واللاذقية، قبل نهاية العام الحالي، وأضاف: «وفقاً لاتفاق سوتشي، سيتم الحفاظ على حدود إدلب، والجميع سيبقى في مكانه». وأكد أن روسيا ستتخذ تدابير لمنع دخول النظام إلى إدلب، ومنع وقوع هجوم عليها.
وأوضح الوزير التركي: «سيتم تطهير المنطقة من المتطرفين، وسيبقى الناس والمعارضة المعتدلة في مكانهما، وسيتحقق وقف إطلاق النار». وأضاف: «سيتم إخلاء المنطقة من الأسلحة الثقيلة من قبيل الدبابات وراجمات الصواريخ، ولكن الأسلحة الخفيفة ستبقى بأيدي بعض قوات المعارضة المعتدلة»، مؤكداً أنه اعتباراً من 15 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل سيتم إخراج الأسلحة الثقيلة من المنطقة المنزوعة السلاح بعمق 15- 20 كيلومتراً على خط التماس في إدلب، وذلك بموجب اتفاق سوتشي الذي توصل إليه الرئيسان التركي والروسي، وأن بلاده سترسل تعزيزات إلى منطقة إدلب.
تمكّنت أنقرة وموسكو من إجراء مفاوضات صعبة ولكن النتائج جاءت إيجابية، على رغم اختلاف مواقف البلدين خلال كل مراحل الأزمة السورية، وتدرك كل من أنقرة وموسكو حاجة كل منهما إلى الأخرى، روسيا اليوم هي العامل العسكري الأقوى على الساحة السورية، لكن من الصعب الوصول إلى مرحلة سياسية متقدمة للحل هناك من دون وجود العامل التركي ضمن المعادلة التي وصلت إليها الأوضاع السورية أخيراً.
وأظهرت نتائج قمة سوتشي إدراك أنقرة وموسكو ضرورة استمرار التعاون بينهما في إطار أوسع عقب الانتهاء من مسألة إدلب من أجل إيجاد حل شامل للأزمة السورية، وستجري القوات التركية والروسية باستمرار دوريات في المنطقة، وبطبيعة الحال، سترصد الطائرات المسيرة المنطقة من الجو.
سيكون تعاون القوات التركية مع القوات الروسية ضمن إطار تنفيذ دوريات تفتيش في إدلب بدايةَ لمرحلة جديدة، وستتمكّن تركيا من المبادرة بشكل أكثر فعالية من السابق خلال البدء بالمراحل المقبلة في سورية بالتزامن مع سعي أنقرة للبدء بمرحلة رُباعية جديدة بالتعاون مع موسكو وباريس وبرلين في ما يتعلّق بالملف، فدخول ألمانيا وفرنسا في هذه المعادلة قد يؤدي لتغيير المسار الرسمي للمرحلة الجديدة.
تجدر الاشارة إلى طريقة تعامل تركيا مع روسيا حيال الاختلاف بينهما حول إدلب، فهذه المرة استخدمت أنقرة أسلوباً معتدلاً وعوضاً عن استخدام خطاب شديد اللهجة على العلن اختارت الديبلوماسية الهادئة. الاختلافات بين وجهات النظر التركية- الروسية- الإيرانية كانت أكثر وضوحاً خلال قمّة طهران الأخيرة، وقد وضّحت روسيا وإيران سعيهما للتمهيد من أجل تنفيذ عملية عسكرية في إدلب، وحاولتا الضغط على تركيا خلال الاجتماع الثلاثي. يُدرك بوتين وروحاني أنهما لا يستطيعان الاتفاق مع أردوغان في العديد من المسائل، وهذا هو السبب الرئيس لوجود مفاوضات بين ثلاثي آستانة، ويجري تنظيم قمم بين هذا الثلاثي من أجل رفع مستوى النقاط المشتركة لأكبر حد ممكن، وكذلك من أجل تقليل اختلاف وجهات النظر لأدنى درجة، إن عدم الوصول إلى نتيجة ملموسة خلال قمّة طهران الأخيرة، يشير إلى الحاجة لتنظيم قمّة جديدة خلال المراحل المقبلة، ولكن مع ذلك لا يزال احتمال قلب طاولة المفاوضات من جانب أحد الأطراف موجوداً دائماً، لكن لا يمكن توقّع أن تفعل روسيا ذلك بعد أن أحرزت تقدّمها الحالي، وإن لم تفعل روسيا ذلك لن تستطيع إيران قلب الطاولة، وبالتالي لا تزال مرحلة آستانة حاجة مشتركة لجميع أطرافها، وما جرى توقيعه في سوتشي أخيراً هو تنفيذ لجوهر تفاهمات آستانة.
بات واضحاً أن روسيا تسعى للحفاظ على مكتسباتها في سورية، خصوصاً أنها تنظر إلى بعض الخطوات التي اتخذتها في الساحة السورية من دون خسارة تركيا على أنها انتصار على أميركا، وتزداد أهمية المسألة نظراً إلى قلق روسيا وبقية الأطراف المشتبكة في الساحة السورية بسبب عدم القدرة على توقّع الخطوات الأميركية مُسبقاً.
هناك مرحلة معقدة اليوم في إدلب لا بد من تجاوزها، تبدأ بفصل المجموعات المسلحة المصنفة «إرهابية» عن الفصائل المعتدلة، وإخراج المجموعات المسلحة المتطرفة من إدلب، وإيجاد «مكان تتجه إليه»، وكل هذه الخطوات يجب تنفيذها حتى عام 2019. وإنهاء هذه المهمة في وقت ضيق إلى هذا الحد أمر لا يخلو من الخطورة.
وأشار أردوغان خلال قمة سوتشي إلى أن أكبر مشكلة تنتظر الحل، هي سيطرة الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني (المصنف إرهابياً في حلف شمال الأطلسي) على المساحة الممتدة من شرق الفرات حتى الحدود العراقية وهي تعادل ربع مساحة سورية، فماذا عن مستقبل هذه الأراضي؟ وفي تناغم معه أشار بوتين إلى أن المجموعات الإرهابية التي يجب محاربتها ليست في إدلب فقط، وإنما في مناطق سورية أخرى ما يفتح الباب لبدء مرحلة ما بعد إدلب.
يبقى القول إن تجاوز أنقرة وموسكو عقدة إدلب، ولو «مرحلياً» بمعزل عن واشنطن، سيؤسس لمرحلة جديدة في سورية والمنطقة ككل، واللافت ترحيب أميركا باتفاق سوتشي.
الحياة اللندنية