محمد زاهد جول
في خضم الأزمات العديدة في منطقة الشرق الأوسط، بما فيها أزمة اختفاء ومصير الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وإرسال الرئيس الأمريكي ترامب وزير خارجيته بومبيو لمتابعة القضية مع الحكومتين السعودية والتركية، في هذا الخضم تركز الحكومة التركية على قضايا الخلاف التركي الأمريكي في أكثر من قضية حساسة، ومن أهمها مطالبة تركيا للولايات المتحدة الأمريكية بتنفيذ وعودها بسحب مقاتلي الأحزاب الكردية من منبج أولاً، والذي تأخر لأكثر من سنتين، ثم مطالبتها بإخراج المنظمات الارهابية من شرق الفرات لاحقاً، فالحكومة التركية ألزمت نفسها بقرار القضاء التركي بشأن القس الأمريكي برانسون بالإفراج عنه بعد قضائه مدة الحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات وشهر ونصف الشهر، وأطلقت صراحة في توقيت أشار البعض إلى أنه يُفيد الرئيس الأمريكي ترامب في الانتخابات البرلمانية النصفية المقبلة.
هذا القرار التركي بإطلاق سراح القس برانسون والسماح له بالعودة إلى بلاده، وأخذ الصور الدعائية للرئيس ترامب معه، بعد وصوله إلى الولايات المتحدة الأمريكية، يفرض على ترامب أن يتراجع عن العديد من القرارات العقابية ضد تركيا، فرئيس الأمن القومي الأمريكي بولتون، وعد في وقت سابق بأن إطلاق سراح برانسون سوف ينهي كل المشاكل مع تركيا، وسوف ينهي ما تمت تسميته بالعقوبات الأمريكية على تركيا فوراً، وهذا ما أخذ يتحدث عنه وزير الخارجية بومبيو، في زيارته الأخيرة لأنقرة يوم 17 اكتوبر/تشرين الأول الجاري بحماس أقل وبرودة أكبر قائلاً بأن، «أمريكا ستدرس رفع العقوبات الأمريكية عن تركيا»، التي فُرضت بسبب القس برانسون، ولكن وزير الخارجية التركي جاويش أغلو لم يتوقف عند رفع العقوبات، وإنما مطالبة أمريكا بإخراج هذه المنظمات قبل أن تضطر تركيا للقيام بذلك بنفسها، كما جاء في تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل ثلاثة أيام من زيارة بومبيو لتركيا قائلاً: «إن أنقرة «ستتولى بنفسها فعل ما يلزم» في حال استمرار مماطلة الجانب الأمريكي في تنفيذ خريطة الطريق بشأن إخراج عناصر «ي ب ك» الإرهابي من منبج السورية».
وحيث أن الحكومة التركية قد توصلت إلى «خريطة طريق» حول منبج مع الجانب الأمريكي بتاريخ 18 يونيو/ حزيران الماضي، فإن تركيا تطالب الحكومة الأمريكية بتطبيق هذه الخريطة، التي بدأت منذ خمسة أشهر بتسيير دوريات عسكرية مشتركة من القوات التركية والأمريكية حول منبج أولاً، ثم داخل منبج ثانياً، ولكن التصرفات الأمريكية الأخيرة تشير إلى سعي أمريكا إلى تثبيت وجود هذه الأحزاب في منبج، لا إخراجها منها، فقد زودتهم أمريكا بآلات إنشائية ثقيلة لحفر الخنادق وإقامة المتاريس قبل أسبوعين، أي أن الحكومة الأمريكية تماطل في تنفيذ خريطة الطريق الأخيرة، كما ماطلت بتنفيذ الاتفاقات السابقة بشأن إخراج المنظمات الارهابية من منبج بعد تحريرها من «داعش».
إن الرئيس أردوغان لا يخفي أسفه من تأخر أمريكا تنفيذ الاتفاق معها بخصوص منبج، ويعلن صراحة أن الحكومة التركية سوف تتحرك بنفسها لإخراج هذه المنظمات الارهابية منها، كما فعلت في عفرين وما قبلها، حتى لو أدى ذلك إلى الاصطدام مع الإدارة الأمريكية مرة أخرى، فقال أردوغان: «للأسف لا نستطيع القول حالياً إنه جرى الالتزام بمهلة الـ90 يوماً، وفي حال عدم التطبيق، فإننا نعلم كيف نتولى بأنفسنا فعل ما يلزم، وسنقوم بما يقتضيه ذلك»، أي أن تركيا مصممة على اتخاذ ما يلزم في حال عدم إقدام الجانب الأمريكي على ما يجب في منبج وشرق الفرات أيضاً، فالمماطلات الأمريكية بتنفيذ اتفاقياتها مع تركيا حول شمال سوريا ومستقبلها السياسي وتركيبتها السكانية والديمغرافية، أمر لا تستطيع الحكومة التركية تحمله، بسبب ما يحمله من تهديدات لأمنها القومي، وبالأخص أن أمريكا تراهن في مشاريعها الاستعمارية في سوريا ـ بحسب الأوصاف الروسية ـ تراهن على الأحزاب والمنظمات والقوات التي تعتبرها الحكومة التركية منظمات إرهابية، وهذا يبين وجود تناقض متواصل بين الرؤيتين التركية والأمريكية حول سوريا، مهما تم تجاوز المشاكل بينهما في قضايا أخرى، مثل قضية الإفراج عن القس الأمريكي بعد قضائه المدة المحكوم عليه في السجن أو الإقامة الجبرية أو غيرها.
إن من أهم ما يتضمنه اتفاق «خريطة الطريق» إخراج إرهابيي تنظيم «ي ب ك / بي كا كا» من منبج، وتوفير الأمن والاستقرار فيها، وتركيا تسعى إلى أن يتم ذلك من خلال الاتفاقيات التي وقعتها مع الحكومة الأمريكية، وإلا فإن الطريقة التركية المقبلة لن تختلف عن الطريقة التي اتبعت سابقاً، من خلال دعمها للفصائل السورية صاحبة الأرض الأصلية، وفي مقدمتها الجيش السوري الحر، كما فعلت في عملية «درع الفرات»، بتطهير مناطق واسعة من الريف الشمالي لمحافظة حلب، بينها الباب وجرابلس، من تنظيم «داعش»، في الفترة من أغسطس/ آب 2016 وحتى مارس/ آذار 2017، وبعدها في منطقة عفرين في عملية «غصن الزيتون» 24 أغسطس 2017 ، فأمريكا أمام خيار التفاهم مع تركيا أو الاصطدام معها في منبج وشرق الفرات، علماً بأن التركيبة الديمغرافية الأصلية للسكان في هذه المنطقة هي لصالح الرؤية التركية، فأهل منبج من العرب السنة، وهم أحق بها من الآخرين الذين تسعى أمريكا في محاولات فاشلة منحها لهم، ولو بفرض التغيير الديمغرافي والعنصري والسياسي لسكان هذه المناطق.
هذا الموقف التركي أكده وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قائلاً: «إن أي مماطلة من الجانب الأمريكي في موضوع منبج السورية ستعيد خريطة الطريق المتفق عليها بين الجانبين، خطوة الى الوراء»، ومخاطباً الجانب الأمريكي قائلاً: «إما أن تطهرّوا بأنفسكم مدينة منبج من الإرهابيين أو نقوم نحن بذلك»، فهذه تصريحات تركية واضحة بأن خيار الاصطدام مع أمريكا في منبج هو خيار جاد، ولا يقل أهمية عما تم في عمليتي «درع الفرات» و «غصن الزيتون»، فتركيا بدأت مشوارها الاضطراري في سوريا ولن تتوقف عن اتمامه، والتحذيرات التركية الأخيرة هي من الموضوع والحزم والجدية ما لا يمكن تجاهله، وهو مطلب شعبي لا يتنازل عنه الشعب التركي، فهل تعمل أمريكا لتفادي هذا الاصطدام مع تركيا؟
كاتب تركي
القدس العربي