سعيد الحاج
على مدى السنوات القليلة الأخيرة، تُشكِّلُ مواجهة مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي أولوية تركيا في مقاربة القضية السورية، لعلاقته العضوية مع حزب العمال الكردستاني المنظمة التي تخوض ضدها حرباً انفصالية منذ 1984 ومصنفة بسبب ذلك على قوائمها للمنظمات الإرهابية، وخوفاً من تحول مناطق نفوذه وسيطرته إلى منصة لإطلاق عمليات ضد أراضيها على غرار معسكرات جبال قنديل في العراق، فضلاً عن ارتدادات ذلك السلبية على ملفها الكردي الداخلي.
كان المشروع في أصله يقوم على وصل الكانتونات/المناطق الثلاث التي يسيطر عليها الحزب وأذرعه العسكرية في الشرق والغرب، بل والوصول لمياه المتوسط، لتأسيس الكيان السياسي المنشود. قطعت أنقرة عبر عملية “درع الفرات” التواصل الجغرافي بين الشرق والغرب، ثم قضت على سيطرة وحدات حماية الشعب على عفرين من خلال عملية “غصن الزيتون”. وهكذا، بقيت في يد الحزب مناطق واسعة شرق نهر الفرات، من خلال قوات سوريا الديمقراطية أو “قسد” وهو الاسم الجديد لوحدات الحماية بعد “تطعيمها” ببعض العناصر غير الكردية.
ترى أنقرة أن مناطق شرق الفرات هي الأساس في مشروع حزب الاتحاد، وأنها الأخطر والأهم من منظور أمنها القومي، ولذلك فهي تهدد منذ فترة بإطلاق عملية عسكرية واسعة ضد القوات في تلك المناطق، وتحدث أردوغان مؤخراً أن بلاده قد أكملت استعداداتها لها، حتى أن بعض وسائل الإعلام التركية قد أطلقت عليها – أو سرّبت – أسماء محددة.
بيد أن هناك اختلافات كبيرة بين مناطق شرق الفرات وما سبقها، أولاً لجهة عدد مسلحي “قسد” هناك وتسليحهم وتدريبهم وخبرتهم وطبيعة المنطقة من جهة، وثانياً وهو الأهم لجهة وجود قواعد ونقاط عسكرية أمريكية في تلك المنطقة، حيث تتعامل واشنطن مع قوات سوريا الديمقراطية كحليف محلي “موثوق” في مكافحة داعش.
هذه الاعتبارات وغيرها تعني أن عملية عسكرية تركية واسعة – بما يتضمن اجتياحاً برياً – على غرار “درع الفرات” و”غصن الزيتون” ليست مرجحة و/أو ذات كلفة عسكرية وسياسية واقتصادية مرتفعة، وإن كان من الممكن أن تلجأ تركيا لها في توقيت أو مرحلة ما. لكن أنقرة أثبتت أيضاً، من جهة أخرى، أكثر من مرة جدية مخاوفها وعزمها على الاستمرار في هذه الاستراتيجية بما في ذلك القصف الجوي والمدفعي لتلك المناطق في نهاية تشرين الأول/أكتوبر وبداية تشرين الثاني/نوفمبر الفائتين.
إصرار تركيا من جهة والحسابات المعقدة من جهة أخرى تدفعان مؤخراً للحديث عن حلول بديلة أو وسيطة بين العملية العسكرية الواسعة والاكفتاء بالمراقبة على طاولة التفاوض التركية – الأمريكية.
وهي حلول يرد بعضها على لسان أنقرة وبعضها الآخر على لسان واشنطن أو في واقع حالها، من حين لآخر، بحيث يمكنها تسكين الهواجس التركية ولو جزئياً ولو مؤقتاً.
من تلك الحلول الوسطى سيطرة القوات التركية على بعض المناطق والبلدات الحدودية بما يؤمن الداخل التركي ويحميه من أي عمليات أو هجمات مفترضة، ولذلك ترد أسماء بعض البلدات تحديداً في خطابات أردوغان والقيادات التركية في مرحلة “ما بعد منبج” مثل تل أبيض وعين العرب وغيرهما.
ومنها مثلاً خروج/إخراج قوات سوريا الديمقراطية من بعض المدن والبلدات ذات الأغلبية العربية وتأمين إدارتها وحمايتها عبر مجالس محلية منتخبة برعاية أمريكية – تركية، على غرار منبج مثلاً، حيث يردد الساسة الأتراك – وبعض المسؤولين الأمريكيين أحياناً – أن تكرار “سيناريو منبج” في مناطق أخرى موضوع نصب أعينهم.
ومنها كذلك “تخفيف” أغلبية وحدات الحماية في قوات سوريا الديمقراطية وسيطرتها عليها من خلال رفدها بعناصر من غيرها، إما عربية وتركمانية كما حصل سابقاً لكن هذه المرة بنسب أكبر، وإما بمكونات كردية سورية أخرى غير محسوبة على حزب الاتحاد. ولعل في لقاء المبعوث الأمريكي الخاص لسوريا السفير جيمس جيفري خلال زيارته الأخيرة إلى تركيا مع المجلس الوطني الكردي – في غازي عنتاب التركية – رسالة ذات دلالة في هذا السياق.
ومنها أيضاً القصف التركي الذي قد يستأنف في مناطق شرق الفرات مستهدفاً بعض مقرات سوريا الديمقراطية وقياداتها، للضغط وتأكيد الموقف ومحاولة تغيير بعض المعادلات ونقض الركائز التي قد يقوم عليها المشروع في تلك المناطق.
المعطيات الحالية والعوامل سالفة الذكر تدفع باتجاه الحلول الوسطى، لكن ليس من السهل الجزم بأيها أوفر فرصاً للتطبيق ثم النجاح. بل من المرجح أن يعمل الطرفان – تركيا والولايات المتحدة – على الجمع لأكثر من حل وسيط في نفس الوقت، فضلاً عن أن سيناريو العملية العسكرية الواسعة ليس مستبعداً بالكلية في حال تغيرت الظروف.
الأهم من ذلك كله أن تركيا تدرك أن المسار الإيجابي في العلاقات مع واشنطن مؤخراً لا يعني إمكانية الثقة بتصريحاتها، باعتبار أن العبرة بالأفعال لا الأقوال، وهي الأفعال التي تردد أنقرة دائماً أنها تصب بدعم أمريكي استراتيجي لحزب الاتحاد وأذرعه العسكرية وليس تكتيكياً أو مؤقتاً كما تقول واشنطن، بدليل المماطلة الشديدة في تطبيق اتفاق منبج وفكرة نقاط المراقبة العسكرية التي تنوي واشنطن بناءها على الحدود التركية – السورية وترى فيها أنقرة دعماً وحماية لعناصر “قسد”.
عربي 21