عبدالوهاب بدرخان
أطلق قرار الانسحاب الأميركي من شمال شرقي سورية ورشة مراجعة لخريطة تقاسم النفوذ بين اللاعبين الخارجيين، ويبدو الكلّ كاسباً باستثناء العرب، ربما لأنهم ليسوا لاعبين أصلاً أو لأن مَن شاء منهم اللعب خسر بالتدخّل الروسي ولم يستفد شيئاً من التدخّل الاميركي. وفي كل الأحوال يبقى بعيداً عن التصوّر أن يدخل أي بلد عربي منافسةً للحصول على رقعة نفوذ في سورية أو أي بلد عربي آخر. لذلك تبرز المفارقة الصادمة في أن تُطرح عودة سورية إلى عضويتها في الجامعة العربية من قبيل الاعتراف بأن النظام قد “انتصر” لكن مع تجاهلِ على مَن انتصر وكيف وبأي ثمن بشري وعمراني، فضلاً عن تجاهلِ الاحتلالات الكثيرة التي ترتّبت على هذا “النصر” وستتحكّم بسورية وشعبها لأعوام مديدة، وأخيراً تجاهل أن هذا النظام تنازل عن كل شيء ليضمن بقاءه ولم يتنازل عن شيء ليقي شعبه أنواع الإذلال شتّى.
قبيل قرار الانسحاب كانت واشنطن متّهمة بترجيح خيار تقسيم سورية وبأنها صانعة تنظيم “الدولة”/ “داعش”. بعد القرار صارت متّهمة بدفع سورية والمنطقة إلى الفوضى وإعادة تمكين “داعش” إذ تترك “الحرب على الإرهاب” مهمّةً غير مكتملة. وقبل القرار كان الاميركيون يقدّمون وجودهم على الأرض باعتباره مؤشّراً إلى الجدّية في احتواء النفوذ الإيراني من سورية وفي الضغط على روسيا كي تحسم أمرها بالمساهمة في اخراج ايران، وبعد القرار بات يُنظر إلى الانسحاب على أنه تزكية أميركية لممر طهران – بيروت عبر بغداد ودمشق. قبل القرار أيضاً كان يُنظر إلى الوجود الأميركي في شمال شرقي سورية كـ “ضمان” سياسي لأي تسوية معقولة ومتوازنة للأزمة السورية، وبعد الانسحاب تصبح روسيا المرجعية الوحيدة للحل السياسي الذي يناسبها.
كانت دول محور استانا الثلاث، روسيا وتركيا وايران، لمّحت في بياناتها الأخيرة إلى مسألة “التقسيم”، سواء للتركيز على أن الوجود الأميركي في الشمال الشرقي “غير شرعي” أو للتحذير بأن واشنطن يمكن أن تستخدم الأكراد أداةً لتفكيك سورية من خلال دعم “قوات سورية الديموقراطية/ قسد” وتسليحها، وكذلك تشجيعها على تطوير المنطقة كإقليم خاص محكومٍ ذاتياً وقادر على حماية نفسه وحدوده. غير أن واشنطن فشلت في تبرير قبولها وجود مقاتلي حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) المصنّف ارهابياً، وبالتالي فشلت في توفير ضمانات لتركيا التي ترى في أنشطة هذا الحزب خطراً على أمنها. فكان أن مالت أنقرة أكثر إلى محور روسيا – ايران لمواجهة الخطر الكردي، علماً بأن طهران (مع دمشق) كانت ولا تزال تقيم علاقة مع “بي كي كي” وتدعمه.
أما احتمالات انتعاش “داعش” فتكاد تكون مضمونة، لكن الخبراء يربطونها بمجريات تقاسم التركة الأميركية، ويعتقدون أن معاودة ظهور التنظيم تتوقّف على الطرف الذي لا يرضى بالحصّة التي تخصّص له وقد يجدها “مجحفة”. وهكذا يقال الآن أن “داعش” جاهز لمن يريد تشغيله، إذ أنه طمر كمية ضخمة من أسلحته في المنطقة التي طُرد منها تحسّباً للعودة. لدى الاميركيين فكرة واضحة عن ارتباطات الأطراف الإقليمية بـ “داعش”، وقد جاء في احدى تغريدات دونالد ترامب أن بإمكان هذه الأطراف استكمال الحرب على هذا التنظيم. لذلك تكثر التكهّنات حول أي “داعش” سيظهر لاحقاً، أهو “الاسدي” أم “الإيراني” أم “التركي” أو “الإسرائيلي” أم؟.. فالأمر منوط بارتضاء روسيا حصّتها وبإرضائها الأطراف جميعاً لتضمن حسن سلوكها.
في المعمعة التي أعقبت قرار ترامب أدرك الجميع أن قواعد اللعبة اختلفت، وصحّت مقولة أن الاميركيين “يخرّبون (اللعبة) ولا يلعبون” التي يردّدها معارضون سوريون كلما تعرّضوا لخذلان واشنطن. اضطرّت تركيا إلى ارجاء حملتها التي كانت أوشكت على اطلاقها في شرقي الفرات لكنها واصلت الحشد العسكري على الحدود، فعلى رغم “التفويض” الترامبي لا يستطيع الأتراك التقدّم لتوسيع نفوذهم قبل التعرّف إلى التصوّرات الروسية. أما ايران التي شعرت بأن فرصة ثمينة تلوح أمامها فسارع رئيسها إلى لقاء نظيره التركي لعقد اتفاقات تضمن عدم تطبيق انقرة للعقوبات الأميركية، لكن خصوصاً لطمأنتها بالنسبة إلى إدلب وأكراد الـ “بي كي كي”، والأهم لاستخدام هذه الاتفاقات والتطمينات في ضمان صمت الأتراك على التحركات الإيرانية الوشيكة.
في العادة تكون روسيا مرتاحة إلى توافق حليفيها في محور أستانا، لكن موقفها في ضوء الوضع الجديد، الناجم عن الانسحاب الأميركي، لم يتّضح بعد. كل التوقّعات ذهبت في اتجاه أن التطوّرات تضطرّ موسكو إلى مراجعة شاملة لاستراتيجيتها، إذ باتت مدعوة إلى ضبط جميع اللاعبين في سورية فضلاً عن توزيع الأدوار وإدارة المصالح المتضاربة والحدّ من الصراعات المحتملة. في السابق كانت موسكو تعتبر الدور الأميركي مصيدة لاستدراج واشنطن إلى مساومة كبرى، وكانت تتعامل بحذر مع ذلك الدور لئلا تخسر الطموحات التي تعلّقها عليه، غير أنه ابتعد في المرحلة الأخيرة عن احتمال بناء “شراكة” ليغدو أقرب إلى المنافسة والتحدّي، ما جعل موسكو تجهر بـ “عدم شرعيته” وتتشدّد في فرض خياراتها. فمن ذلك مثلاً مضاعفة تمسّكها بدور ايران وصمتها على انتهاكاتها في تجذير نفوذها واشتغالها بالتغيير الديموغرافي، بل حتى التقليل من تطويرها لـ “حزب الله السوري” وتغلغلها في الأجهزة الأمنية والاستخبارية للنظام. من ذلك أيضاً عدم اعترافها بالعقبات التي يمثّلها نظام بشار الأسد أمام عودة اللاجئين وإعادة الإعمار. ومن ذلك خصوصاً عملها بدأب على تغليب مسار أستانا على مسار جنيف للتخلّص من أي كلمة للمجتمع الدولي في الحل السياسي وإصرارها على الحل عبر لجنة دستورية موالية لنظام الأسد.
بعد أقل من يومين على قرار ترامب كانت الأطراف الدولية والإقليمية تكثّف اتصالاتها عبر أجهزة الاستخبارات. إذ بدّدت استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس أي احتمالات للتراجع عن الانسحاب وأصبح لزاماً التعامل معه كاستحقاق وشيك. كل ما استطاعت الأطراف الحصول عليه إمكان التطبيق المنسّق للقرار، لتتمكّن بدورها من برمجة الفوضى والاستثمار في انعكاساتها. لم تكن طهران معنيّة بتلك الاتصالات، إذ تحركت بالسرعة القصوى لنقل ما أمكنها من المقاتلين من حلب ومحيط إدلب إلى جنوب شرق دير الزور، تحديداً الميادين والبوكمال، فيما استحث الروس إلى تلك المنطقة قوات سورية تابعة لهم ويثقون بقيادتها (سهيل الحسن). قبل ذلك كان الجنرال قاسم سليماني قفز إلى بغداد فالنجف في مهمة ظاهرها بتّ خلافات البيت الشيعي على الحقائب الوزارية العالقة في حكومة عادل عبد المهدي، وباطنها تنظيم توجّه فصائل “الحشد الشعبي” إلى المنطقة الحدودية مع سورية، فالفرصة أصبحت متاحة لإقامة الوصل بين الميليشيات عبر الحدود. في اللحظة التي كان سليماني يشرف على جهوزية “الحشد” كان الوزير مايك بومبيو يهاتف الرئيس ورئيس الحكومة العراقيين لتأكيد استمرار الدور الأميركي، بل احتمال نقل قوات من سورية إلى العراق.
في الوقت نفسه نشّط النظام السوري اتصالاته أيضاً بزيارات رئيس مكتب الأمن الوطني علي المملوك إلى عواصم عدة لم تكن شبه علنية سوى في القاهرة. يتنازع النظام مزاج مشوّش، إذ يُفترض أن له مصلحة في الانسحاب الأميركي لكنه تصوّر دائماً أن له مصلحة مع الاميركيين، ومع أنه يدين ببقائه لروسيا إلا أنه يرتاب من استفرادها بتسوية الأزمة خصوصاً أنها فرضت الدورَين التركي والإسرائيلي من دون مشاورته، ومع أنها تتعايش بشكل عادي مع الدور الإيراني إلا أن مصالحها واستئثارها بالملف السوري سيحتّمان عليها تقنين هذا الدور. ولعل الأهم عند الأسد أن الروس صاروا يكثرون من تجاوزه في ترتيب قوات النظام كما في تبنّيهم سهيل الحسن أو في رفضهم التعاطي مع أقرب العسكريين إليه فضلاً عن حمايتهم الاستثنائية لرموز كان أقصاها عن نظامه.
ربما يشعر النظام بأنه مستبعد عما يُطبخ لسورية وللمنطقة بمعزل عنه، وأنه أداة وليس لاعباً، لذلك يرغب في اجراء انفتاحات خاصة به حتى لو كانت محدودة. ولا شك أن المُقبلين على استعادة العلاقة معه سيكتشفون انفصاله عن الواقع، فهم يريدون منه شيئاً من الابتعاد عن ايران، لكن الأمر لم يعد في يده.
* كاتب لبناني.
الحيا اللندنية