الإخوان المسلمون في سورية

حياة الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله تعالى)

مقدمة:

الحديث عن أية جماعة يقود بالضرورة إلى الحديث عن مؤسسها، فهي فكرة في نفس المؤسس قبل أن تكون حقيقة مُجَسَّدة على الأرض، فضلاً عن أن قواعد سير الجماعة وأعرافها وقوانينها المهمة وملامح فكرها.. إنما تتبلور في أيامها الأولى حين يكون المؤسس على رأس العمل والبناء.
فهذا طرف من أهمية الحديث عن الإمام البنا رحمه الله تعالى بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين، فوق مزاياه الكثيرة التي قَلَّ أن تجتمع في إنسان فرد.
ونحن لا نزعم أننا سنوفيه حقه أو بعض حقه في هذه الصفحات، إنما هي لمسات خاطفة تبرز لنا بعض ملامح هذا الرجل العظيم.

المولد والنشأة:

ولد حسن البنا في المحمودية بمصر بتاريخ 17/10/1906م ونشأ في بيت عريق في العلم والدين. فقد كان والده من علماء الحديث، وله فيه مصنفات عديدة. ففي هذا الجو ترعرع البنا، فتميز بالشغف العلمي والورع والزهد. وكان يداوم على قيام الليل وصيام الاثنين والخميس. وحفظ نصف القرآن صغيراً، ثم أتمه بعد أن ناهز الاحتلام.
وكانت غيرته على الإسلام تدفعه أحياناً إلى تغيير المنكرات بلسانه ويده. ويمارس ذلك بمفرده أو بإنشاء جمعيات خيرية، كجمعية الأخلاق الأدبية، وجمعية منع المحرمات. وبكتابة رسائل إلى بعض الشخصيات يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر من غير أن يذكر اسمه.
تَعلَّم في مدرسة الرشاد الدينية، ثم في المدرسة الإعدادية، ثم في مدرسة المعلمين الأولية في (دمنهور)، وفي دار العلوم، وكان متفوقاً في مراحل دراسته جميعاً. وعندما تقدم لامتحان دار العلوم كان يحفظ ثمانية عشر ألف بيت من الشعر وما يماثل حجمها من النثر، ويحفظ متون أمهات العلوم.
عُيِّن البنا معلما في إحدى مدارس الإسماعيلية، حيث تَجْثُمُ القوات البريطانية وتعطي المدينة طرازا أوروبيا، وتُذِل الناس، وتنشر الإباحية، وتعمل على اجتثاث الإسلام.. وكانت هذه المشاهد التي يراها بعينيه، ويسمع عن أشباهها في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي تَحُزُّ في قلبه وتُؤَرِق مضجعه..

من ملامح عظمة البنا:

للعظمة ميادين شتّى، فقد يكون العظيم عالماً أو فاتحاً أو مخترعاً أو مربياً روحياً أو زعيماً سياسياً.. ولكن أجدر العظماء بالخلود هم الذين يبنون الأمم، وينشئون الأجيال، ويغيرون مجرى التاريخ.
وحسن البنا هو أحد هؤلاء الخالدين، ليس لأنه كان عالماً وخطيباً وسياسياً ومجاهداً فحسب، بل لأنه فوق ذلك: بنى دعوة منظمة تحمل مقومات الامتداد عبر الأوطان والقارات، لترفع اسم الله تعالى عالياً في ربوعها، وأنشأ جيلا من المسلمين متميزاً بالتفاني والتضحية في سبيل الله تعالى. وإنه لن يستطيع مؤرخ منصف، أو محلل سياسي أن يتناول بالبحث أحداث الشرق الأوسط إلا ويبرز دور البنا ومدرسته في هذه الأحداث.

شيوخ البنا:

أهم شيوخ البنا وأساتذته الذين كان لهم دور في حياته:

1- والده: أحمد عبد الرحمن الساعاتي البنا

المحقق المعروف عند أهل العلم والصلاح، له مصنفات أهمها: “الفتح الرباني لتصنيف مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني” و “بدائع المنن” الذي جمع فيه أسانيد الشافعي، و”منحة المعبود” الذي جمع فيه أسانيد الطيالسي.
كان هذا الوالد العالم حريصاً على تعليم ابنه القرآن الكريم وعلوم الإسلام، فأدخله مدرسة الرشاد الدينية ليحفظ القرآن وبعض الحديث ويتعلم الإنشاء والقواعد والأدب والمطالعة.. حتى إن حسن البنا يُعلل سبب إقباله على الدرس والتحصيل، فيذكر سببين، هما: أ. مكتبة الوالد، وتشجيعه ابنَه على القراءة والدرس.
ب. اهداؤه ابنَه كتبا مايزال يحتفظ بها.
وكان لاشتغال الأب بالحديث وعلومه دور مهم في وِقاية الولد من التأثر بالبدع التي تَعِجُّ في الأوساط الصوفية.

2- الشيخ محمد زهران (صاحبُ مدرسة الرشاد)

وهو كما يقول عنه الإمام البنا: ” كان له أسلوب في التدريس والتربية مؤثِّر مُنتج، على أنه لم يدرس علوم التربية ولم يتلقَّ قواعد علم النفس، فكان يعتمد على المشاركة الوجدانية بينه وبين تلامذته.. وأدركتُ منذ تلك اللحظة أثر التجاوب الروحيّ والمشاركة العاطفيّة بين التلميذ والأستاذ، فلقد كنا نُحب أستاذنا حُبَّاً جمَّا مع ما كان يكلفنا من مرهقات الأعمال، وأفدتُ منه حبّ الاطلاع والقراءة.. إذ كثيرا ما كان يصحبُني إلى مكتبته وفيها الكثير من المؤلفات النافعة..”.

3- الشيخ حسنين الحصافي

شيخ الطريقة الحصافية: وكان عالما أزهريا تفقه على مذهب الإمام الشافعي وبرع في علوم الدين.. وكان كثير العبادة حريصا على السنن والنوافل.

تلامذة البنا:

أما تلامذة البنا فهم هذا الحشد الهائل من جنود الدعوة .. ونحن نذكر هنا عددا من الذين تتلمذوا عليه بشكل مباشر وقريب. فمن هؤلاء:

1- عبد القادر عودة:

وهو القاضي ثم المحامي ورجل القانون البارع، الذي ألف: (الإسلام وأوضاعنا القانونية) و(الإسلام وأوضاعنا السياسية) و(التشريع الجنائي في الإسلام) وغير ذلك من المؤلفات. أعدمه عبد الناصر شنقاً بتاريخ: 9/12/1954م مع خمسة إخوان آخرين، هم: يوسف طلعت، ومحمود عبد اللطيف، وإبراهيم الطيب، ومحمد الفرغلي، وهنداوي دوير. وعندما وصل إلى حبل المشنقة قال: أشكر الله الذي منحني الشهادة. إن دمي سيكون لعنة على زعماء الثورة.
وقد كان اعتقالهم – ثم إعدامهم – بدعوى محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في ساحة المنشية، هذا الحادث الذي كان ذريعة إلى اعتقال أربعة عشر ألفا وإعدام هؤلاء الستة ، فضلا عن الذين استشهدوا تحت التعذيب.
والأسباب التي كانت وراء إعدام عبد القادرعودة – رحمه الله تعالى- كثيرة، أهمها: أن عبد الناصر ساومه ليكسبه إلى جانبه ويشق به صف الجماعة، فأبى عليه ذلك. ولما أصدر عبد الناصر قرارا بحلّ جماعة الإخوان المسلمين نصحه عبد القادر عودة بالعدول عن ذلك وحذره من اندفاع بعض الشباب المتحمسين، فركب عبد الناصر رأسه، وأصرَّ على قراره. ولما أصدر الضباط الأحرار قرارا بعزل محمد نجيب عن رئاسة الجمهورية عارضهم عبد القادر عودة. ولما وَقَّعَ عبد الناصر معاهدة مع الإنكليز عارضها الإخوان، ورفع عودة مذكرة قانونية بذلك.

2- حسن عشماوي:

قابل الأستاذ البنا عام 1944م أيام كان وكيلا للنائب العام، وارتبط يومها بالحركة الإسلامية، ثم ترك وظيفته ليتفرغ للمحاماة، واستهل عمله بالدفاع عن المتهمين من الإخوان فيما سُمِّي بـ (قضايا الجيب والأوكار). وكان حلقة اتصال بين الإخوان والضباط الأحرار في التعاون ضد الإنكليز.

3- محمد فرغلي:

ولد عام 1907م واستشهد عام 1954م (في قافلة الشهداء الستة). جاهد ضد اليهود والإنكليز، حتى جعل الإنكليزُ مكافأةً خمسة آلاف جنيه (مبلغ ضخم في تلك الأيام) لمن يأتي به حيا أو ميتا.

4- حسن الهضيبي:

ولد عام 1891م، عمل في المحاماة، ثم في القضاء، واستقال من القضاء بعد اختياره مرشدا عاما للإخوان عام1950م. اعتُقل مرات عدة، وحُكِمَ عليه بالإعدام، ثم خُفف الحكم الى المؤبد. توفي رحمه الله بتاريخ: 11/11/1973م.
حفظ القرآن الكريم صغيرا. كان متين الخلُق ذا شخصية قوية. وكان له دور في إقامة شُعبة للإخوان في قريتهم في عشيرته “عرب الصوالحة”.
لم تفتر صلته بالإمام البنا ولم يُقَصّر يوما في إمداده بالرأي والعون المثمر، لاسيما في المواقف الحرجة. ولقد بادر عقِب قرار حل الجماعة بلقاء المرشد حسن البنا فوضع نفسه وبيته وأولاده ومنصبه وماله تحت تصرف الدعوة.. وكان الإمام البنا بدوره يُقَدّر عظمة الهضيبي ويحرِص على سرية ارتباطه بالجماعة، ليدّخره إلى الأيام العصيبة.

تأسيس جماعة الإخوان المسلمين:

لقد أيقن حسن البنا أن الخير والسعادة لايكونان إلا بالإسلام، وأن التخلص من الشقاء وفُشُوّ الجهل وسيطرة الإنكليز.. لايكون إلا بالعودة إلى الإسلام، فوقف نفسه على غاية واحدة هي إرشاد الناس إلى الإسلام حقيقة وعملا. وظلّ يُفكر بالخطوات العملية، فيستغرق متأملا، أو يُحدِّث بعض أصحابه ويستثيرهم ويحثهم.
كان يجد التثبيط أحيانا والتشجيع أحيانا والتريّث أحيانا أُخرى. وكان من أكثر من وَجد عنده الاهتمام والاستعداد هو أحمد باشا تيمور. ثم وجد استعدادا حسنا عند بعض شيوخه وأصحابه القدامى، وكان أسرعهم مبادرة: أحمد أفندي السكري وأحمد عبد الحميد وحامد عسكرية.
فتعاهد الأربعة على أن يعمل كل منهم لهذه الغاية حتى يتحول العرف العام في الأمة إلى وجهة إسلامية صالحة. وكان هذا العهد والموثق تمهيدا لقيام الجماعة: جماعة الإخوان المسلمين.
ويعبر عن ذلك الإمام البنا بقوله في رسالة المؤتمر الخامس: الإخوان فكرة في نفوس أربعة. ويقول: وليس يعلم إلا الله كم من الليالي قضيناها ونحن نستعرض حال الأمة: نحلل الأدواء ونفكر في العلاج.. ويفيض بنا التأثر إلى حد البكاء.. وكم كنا نعجب إذ نرى أنفسنا في مثل هذه المشغلة النفسانية العنيفة، والخَلِيُّون هاجعون يتسكعون على المقاهي، ويترددون على أندية الفساد..
وفي الإسماعيلية وُضعت أول نواة تكوينية للفكرة على أيدي الإخوة الستة: حافظ عبد الحميد وأحمد الحصري وفؤاد إبراهيم وعبد الرحمن حسب الله وإسماعيل عزّ وزكي المغربي.
وتشاوروا: ماذا نتخذ لأنفسنا من اسم؟ فقال أحدهم: وماذا نسمي أنفسنا؟ إنما نحن إخوان! وقال آخر: ونحن مسلمون! فقال الإمام البنا: فنحن إذاً: الإخوان المسلمون.
ويُحدد البنا في رسائله أهم ملامح فكر الإخوان المسلمين، ويُوضح دعوتهم وفهمهم للإسلام في ثلاث نقاط، هي:
1- الشمول: (أي أن الإسلام يتناول شؤون الحياة كافة ويشمل كل نشاطات الإنسان الخاصّة والعامّة).
2- الربّـانية: (أي أن المرجع في الأحكام كلها هو رب العالمين).
3- الواقعية: (أي إن شريعة الإسلام تتناسب والواقع ، فهي تواجه الثابت من حياة البشر بتشريعات ثابتة، وتواجه المتطور بتشريعات مرنة ، كما في كثير من شؤون التنظيمات الإدارية..).
ويقول: إن فكرة الإخوان المسلمين تضم كل المعاني الإصلاحية، فهي دعوة سلفية، وطريقة سُنّيّة، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية.
وَيَذْكُرُ من خصائص دعوة الإخوان، سبعا، أهمها: البُعد عن مواطن الخلاف، والتدرج في الخطوات، وإيثار الناحية العملية.
ويحدد غاية الإخوان المسلمين ووسيلتهم وموقعهم من المبادئ والأفكار المطروحة في عصره، وموقفهم من الجماعات القائمة في ذلك الوقت، وموقفهم من الثورة واستخدام القوة واستلام الحكم..
وأهم ما يشرح ذلك من رسائل الإمام: رسالة المؤتمر الخامس، ثم رسالة: نحو النور، ورسالة: بين الأمس واليوم. ومن الرسائل الأخرى: رسالة الجهاد، ورسالة المأثورات، ورسالة إلى الشباب. وهناك رسالتان مهمتان في مجال التربية الفردية: رسالة العقائد (لشرح عقيدة المسلم فيما يتعلق بالله سبحانه وصفاته..)، ورسالة التعاليم لتربية الإخوان المجاهدين.
أما أهم كتاب بعد هذا في شرح نشأة الجماعة وملامح فكرها، فهو: مذكرات الدعوة والداعية.

قسم الأخوات المسلمات:

وضع الأستاذ البنا لائحة خاصة تنظم طرائق السير ووسائل النشر للدعوة بين الإناث من بيوت الإخوان وغيرهن. وكان الغرض من تكوين هذا القسم: التمسك بالآداب الإسلامية، والدعوة إلى الفضيلة، وبيان أضرار الخرافات الشائعة بين المسلمات، وإعداد جيل من الفتيات المسلمات والنساء يُزَوَّدْنَ بأعظم قدر من التربية الإسلامية المستنيرة، مع قسط من المعلومات الفقهية والتاريخية.. استعدادا لإنشاء البيوت الإسلامية التي تعتمد في إنشائها على المرأة أكثر مما تعتمد على الرجل. فالأم الصالحة والبنت الصالحة والأخت الصالحة ينشرن معاني الخير والعفاف، ويدفعن الرجل نحو التضحية والجهاد.
وقد حرص البنا أن يجعل اجتماعات الأخوات خالصة للتربية والتثقيف دون انشغال بالأمور الإدارية. كما كان حريصاً أن لا يضيع جهود الأخوات في الالتفات إلى المناصب الإدارية.. بل يوجه جهودهن نحو الالتزام والتطبيق. وكل أخت تجد في نفسها وبيتها ميداناً لتطبيق ما تَلقّته من فكر وتوجيه.
وقد أثبت قسم الأخوات جدارته في إنشاء البيت المسلم الذي يتعاون فيه الزوجان والأبناء على البر والتقوى ويتواصون بالحق ويتواصون بالصبر. ولما تعرض الإخوان والأخوات لمحنة التشريد والقتل والسجن، كان أثر تربية الأخوات ظاهراً: ثباتًا وعفة وصبرًا ومصابرة وعملاً وجهادًا، مما ذَكَّر بنساء الرعيل الأوّل: سمية وأسماء ونسيبة وغيرهن رضي الله عنهن.

بعض أعمال الإمام البنا في فلسطين:

عندما بدأت المعارك بين المسلمين واليهود في فلسطين عام 1947م دفع البنا بعض كتائبه إلى فلسطين حيث قامت ملاحم بطولة رائعة، لقّن فيها شباب الإخوان دروسا لا تُنسى لليهود.. في الوقت الذي كُشفت فيه خيانة بعض الحكام العرب، وفضيحة الأسلحة الفاسدة بأيدي الجيش المصري التي زوده بها ملك مصر (فاروق).
وبطولات الإخوان ومهاراتهم في القتال كشفت قدرات كبيرة وتدريباً رائعاً، مما جعل فاروق يخطط لضرب الجماعة واغتيال مؤسسها البنا. فضَربت دبابات فاروق حصارا على مخيمات المجاهدين الذين آثروا الاستسلام على سفك الدماء البريئة، فَوقَعُوا ضحية اعتقالات طويلة الأمد، وأُبعدوا عن سوح الكفاح والجهاد.
أعلن الأستاذ البنا أن محاربة اليهود عن طريق الفدائيين المؤمنين أجدى ألف مرة من عمل الجيوش النظامية التي تقودها حكومات عميلة.
وطالب الإخوانُ حكومة النقراشي بفتح الطريق أمامهم إلى فلسطين فرفضت طلبهم، فرأى الإخوان أن يتسسللوا في الخفاء، فأحكمت الحكومة مع الإنكليز مراقبة الحدود لمنع الإخوان من ذلك، ومع ذلك، تسلل من الإخوان من استطاع وقاتل اليهود.
كما قام الإخوان في مصر وفي أقطار أخرى بردف الجهاد بالمقاتلين وكتائب الجهاد، وبجمع المال، وإلقاء الخطب وتوزيع المنشورات، ونظموا لذلك لجانا مختلفة أهمها اللجنة التي شكلها الإمام البنا باسم: ” اللجنة المركزية العامة لمساعدة فلسطين “. حيث قامت هذه اللجنة وفروعها بأعمال عدّة، منها:
أ. جمع التبرعات وإرسالها إلى المجاهدين في فلسطين.
ب. توجيه كتب إلى الحكومات تشحذ هممها للدفاع عن الأرض الطاهرة.
ج. استثمار الطلاب في توضيح الفكرة في الأرياف، ونشر الوعي الخاص بقضية فلسطين.
د. مخاطبة الأقباط بكتبٍ رسمية يطلبون فيها إغاثة اللاجئين.
هـ. الدعوة إلى القنوت في الصلاة من أجل فلسطين.
وقد ألف كامل الشريف كتابين عن جهاد الإخوان المسلمين في تلك الفترة أحدهما: (الإخوان المسلمون في حرب فلسطين) والآخر: (المقاومة السرية في قناة السويس). وفي قراءة هذين الكتابين فائدة ومتعة كبيرتان.

استشـهاد الإمام حسن البنا:

أعلن النقراشي (رئيس وزراء مصر) في مساء الأربعاء: 8/12/1948م قراره بحلّ جماعة الإخوان المسلمين، ومصادرة أموالها واعتقال معظم أعضائها. وفي اليوم التالي بدأت حملة الاعتقالات والمصادرات، ولما همّ حسن البنا أن يركب سيارة وُضِع فيها بعض المعتقلين اعترضه رجال الشرطة قائلين: لدينا أمر بعدم القبض على الشيخ البنا. لكن البنا أصرّ على الركوب في سيارة المعتقلين، فعادت السلطات وأطلقت سراحه، فصرح عندئذ بقوله: أنتم تقتلونني بعدم القبض عليّ. وقال أمام مجلس الدولة: إن قرار حلّ الإخوان صدر عن اجتماع عُقد في ثكنات الاستعمار. وأخذ يتردد على جمعيّة الشبان المسلمين، وحَدَّثهم مرّة قائلا لهم: لقد جاءني سيدنا عمرُ في الرؤيا يُنَبِّئُني بأعلى صوته: سَتُقْتَلُ يا حسن. ثم قُمْتُ وتهجدت إلى الفجر.
ثم صادَرت الحكومةُ سيارة الإمام الخاصّة، واعتقلت سائقه، وسحبت سلاحه المُرخص به، وقبضت على شقيقيه اللذين كانا يرافقانه في تحركاته. وقد كتب إلى المسؤولين يطلب إعادة سلاحه إليه، ويُطالب بحارس مسلح يدفع هو راتبه، وإذا لم يستجيبوا فإنه يُحَمّلهم مسؤولية أيّ عدوان عليه.
لكن الأمور كانت مرتّبة، فتتابعت الحوادث سريعاً، حيث كان الأميرالاي محمود عبد المجيد المدير العام للمباحث الجنائية بوزارة الداخلية يُدبّر أمر اغتيال حسن البنا، واستخدم في ذلك عصابة من “الأمن المصريّ” ووضع تحت تصرفهم سيارته الرسمية رقم 9979. وتفصيل ذلك في مفكرة النيابة العمومية المصرية سنة 1952م .
في الساعة الثامنة من مساء السبت: 12/2/1949م كان البنا يخرج من باب جمعية الشبان المسلمين يرافقه رئيس الجمعية لوداعه ودقّ جرس الهاتف داخل الجمعية، فعاد رئيسها ليجيب الهاتف، فسمع إطلاق الرصاص، فخرج ليرى صديقه البنا وقد أصيب بطلقات تحت إبطه وهو يعدو خلف السيارة التي ركبها القاتل، ويأخذ رقمها.
لم تكن الإصابة خطرة، بل بقي الإمام البنا بعدها متماسك القوى كامل الوعي، وقد أَبلغ كل من شهدوا الحادث رقم السيارة، ثم نقل إلى مستشفى القصر العيني فخلع ملابسه بنفسه. وقد شهد بذلك محمد الليثي الذي كان في غرفة العمليات حين وصول حسن البنا، كما شهد أن الطبيب أجاب البكباشي محمد وصفي، أحد زبانية فاروق، حين سأله عن المصاب: إن إصابته ليست خطرة.
فهذا كله يرجح بأن الإمام البنا لم يُقتَل برصاص المغتالين، بل بأحد أمرين:
الأوّل: أنه تُرك ينزف حتى أجهز عليه، ومُنع الطبيب من إسعافه.
الثّاني: أن محمد وصفي ارتكب جريمة القتل داخل غرفة العمليات. فقد أثبتت أقوال الشهود في التحقيقات أن محمد وصفي فرض نفسه في غرفة العمليات بوصفه ممثلا لوكيل الحاكمدار أحمد طلعت، وأخرج كل من كان في الغرفة، ولم يبق بجانبه إلا الطبيب المغلوب على أمره. وقد ورد على لسان الأمين الخاص للقصر الملكي: إن الملك أرسل محمد وصفي للإجهاز على حسن البنا إن كان لا يزالُ حيَّا!
لفظ البنا ـ رحمه الله ـ أنفاسه الأخيرة في الساعة الثانية عشرة والنصف ( بعد منتصف الليل، أي بعد أربع ساعات ونصف من بدء محاولة الاغتيال)، ولم يعلم والده وأهله بالحادث إلا بعد ساعتين أخريين. وأرادت الحكومة أن تظل الجثة في المستشفى حتى تخرج إلى الدفن مباشرة. ولكن ثورة والد الشهيد جعلتها تتنازل فتسمح بحمل الجثة إلى البيت، مشترطة أن يتم الدفن في الساعة التاسعة صباحاً، وألا يقام عزاء!.
واعتقلت السلطة كل رجل حاول الاقتراب من بيت البنا قبل الدفن فخرجت الجنازة تحملها النساء، إذ لم يكن رجل غير والده الذي رفض أن يحملها، وقال لرجال الجيش والشرطة: أنتم قتلتموه فاحملوا جثته على أعين الناس!.

قالوا في الإمام الشهيد حسن البنا:

1- قال الشهيد سيّد قطب رحمه الله، تحت عنوان: حسن البنا وعبقرية البناء:
“في بعض الأحيان تبدو المصادفة العابرة قدرا مقدورا وحكمة مدبرة في كتاب مسطور. حسن البنا. إنها مصادفة أن يكون هذا لقبه. ولكن من يقول: إنها مصادفة؟! والحقيقة الكبرى لهذا الرجل هي البناء وإحسان البناء بل عبقرية البناء؟!.. وإن استشهاده عملية جديدة من عمليات البناء، عملية تعميق للأساس وتقوية للجدران. وما كان ألف خطبة وخطبة، ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتلهب الدعوة في نفوس الإخوان كما ألهبتها قطراتُ الدم الزكي المهراق.. إنّ كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا مُتنا في سبيلها دَبَّت فيها الروح، وكتبت لها الحياة. وعندما سلَّط الطغاة الحديد والنار على بناء حسن البنا والعاملين فيه، استطال على الهدم، لأن الحديد والنار لا يمكن أن يهدما فكرة في يوم من الأيام”.
2- وقال السيّد أبو الحسن الندوي رحمه الله:
إن كلّ من عرف حسن البنا عن كَثب لا عن كُتب، وعاش متصلا به، عرف فضل هذه الشخصية التي قفزت إلى الوجود وفَجَأَتْ مصرَ ثم العالم العربي والإسلامي كله بدعوتها وجهادها وقوتها الفذّة. فقد اجتمعت فيه صفات ومواهب تعاونت في تكوين قيادة دينية اجتماعية لم يعرف العالم العربي والإسلامي وما وراءه قيادة دينية أو سياسية أقوى وأعظم تأثيراً، أو أكثر انتاجا منها منذ قرون، وفي تكوين حركة إسلامية يندر أن تجد حركة أوسع نظاماً، وأعظم نشاطاً، وأكبر نفوذاً.
وقد تجلت عبقرية حسن البنا من ناحيتين:
1- شغفه بدعوته وإيمانه واقتناعه بها، وتفانيه فيها، وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ووسائله. وذلك هو الشرط الأساس والسمة الرئيسية للدعاة والقادة الذين يُجري الله على أيديهم الخير الكثير.
2- تأثيره العميق في نفوس أصحابه وتلاميذه ونجاحه المدهش في التربية والإنتاج. فقد كان منشئ جيل ومربي شعب وصاحب مدرسة علمية فكرية خلقية. وقد أثَّر في ميول من اتصل به من المتعلمين والعاملين، في أذواقهم ومناهج تفكيرهم وأساليب بيانهم ولغتهم..
3- وقال الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى:
كان حسن البنا لله بكليته وروحه وجسده، بقلبه وقالبه، بتصرفاته وتقلبه. كان لله فكان الله له، واجتباه فجعله من سادات الشهداء الأبرار.
وينقل الشيخ سعيد حوا رحمه الله عن الشيخ الحامد أنه كان يعتبر البنا مُجَدِّد القرون السبعة الماضية.
4- وقال عبد الحكيم عابدين رحمه الله أمين سرّ الإخوان في عهد البنا:
أقام الداعية المؤمن مدرسته الفاضلة في توجيه الفكر الإسلامي على عشر دعائم:
1- دوام استهداف الوحدة، وهي الحرص على رابطة القلوب واجتماع الكلمة.
2- كلّ من قال: “لا إله إلا الله” يلتقي معك في ظلّ التوحيد.
3- اتهام النفس، وإحسان الظن بالمخالِف.
4- أدب الإنكار والاختصام، فإذا أنكر على إنسان أو خاصم، التزم الخلق الرفيع في ذلك.
5- ذمّ الجدال والمكابرة.
6- جواز تعدد الصواب.
7- التعاون في المتفق عليه، وتبادل العذر في المختلف فيه.
8- استحضار خطر العدو المشترك الذي لا يميز بين مسلم وآخر.
9- فتح آفاق العمل والانتاج، فعلى كلّ أخ ـ فوق أعماله الخاصّة ـ أن يقرأ كل يوم وِرْداً من القرآن، ويحاسب نفسه قبل النوم.
10- الرثاء للضال المنحرف، لا الشماتة فيه ولا التشهير به.
5- وقال الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي رحمه الله:
“ويح مصر وإخوتي أهل مصر مما يستقبلون جزاء مااقترفوا، فقد سفكوا دم وليّ من أولياء الله!! ترى أين يكون الأولياء إن لم يكن منهم، بل في غُرَّتِهم، حسن البنا الذي لم يكن في المسلمين مثله؟”.
رحم الله الإمام الشهيد حسن البنا رحمة حسنة واسعة، وجعله ممن رضي عنهم ورضوا عنه، وأسكنه وجمعه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجمعنا معهم في مستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، آمين آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

محمد عادل فارس