الإخوان المسلمون في سورية

رسالة التعاليم

رسالة التعاليم تمثل آخر اجتهادات الإمام البنا – رحمه الله – التي هي حصيلة استشفاف عام لحركة التاريخ، ولواقع المسلمين، ودلالة النصوص، فقد مرّت على المسلمين عهود من التراجع في كل المجالات، أدت إلى إلغاء الخلافة، وانهيار في عدد من جوانب الحياة، فكان لا بد من وجود حركة تعمل على إنضاج وعي الأمة، بعد أن كثرت الخلافات الفكرية، والمنازعات العقلية، فجاء الإمام البنا ورسالته هذه ليرسم معالم مضيئة في الفكر الإسلامي.
وهذه الرسالة كتبت لشريحة معينة من الإخوان. إنهم الإخوان المجاهدون الذين آمنوا بسموّ دعوتهم، وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها، أو يموتوا في سبيلها. فهي ليست كلمات للحفظ، بل تعليمات للتنفيذ الجاد.
إن من شروط نجاح الدعوة وضوح تعليماتها وعقيدتها وأهدافها ووسائلها… حتى تسير بخطى ثابتة، وعزيمة قوية.
ونحن هنا نسجل خلاصة لهذه الرسالة، ولآراء عدد من شُرّاحها.
إن عناصر إنضاج وعي الأمة هي:
1- وعي المبدأ أو العقيدة أو الرسالة.
2- وعي الكيان أو الجماعة أو المنظمة.
3- وعي الموقف، أي إدراك المرحلة وظروفها وملابساتها.
4- وعي أسلوب الدعوة ومخاطبة الناس.
يقول الإمام الشهيد حسن البنا:
“أيها الإخوان الصادقون. أركان بيعتنا عشرة فاحفظوها: الفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخوّة والثقة”.
الركن الأول: الفهم
إنه الركن الأول، لأن الأركان الأخرى تتوقف عليه، وإن أي خلل فيه سينعكس على باقي الأركان.
وحتى يكون هذا الركن محفوظاً من أي غموض أو انحراف، فقد عرفه الإمام البنا، ثم وضحه في عشرين أصلاً، فقال:
“إنما أريد أن توقن بأن فكرتنا إسلامية صميمية، وأن تفهم الإسلام كما نفهمه، في حدود هذه الأصول العشرين”.
الأصل الأول: الشمول: الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً. فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمة؛ وهو خلق وقوة، أو رحمة وعدالة؛ وهو ثقافة وقانون، أو علم وقضاء؛ وهو مادة وثروة، أو كسب وغنى؛ وهو جهاد ودعوة، أو جيش وفكرة؛ كما هو عقيدة صادقة، وعبادة صحيحة، سواء بسواء.
المسلمون بحاجة إلى أن يعيدوا النظر في أوضاعهم، في ضوء الدين الذي ينتسبون إليه. فكثير منهم لا يدركون هذا الدين على حقيقته، فقد يصلّون ويصومون… لكنهم لا يَعُونَ أن الدين يشمل نشاطات الحياة كافّة، داخل القلب والنفس، وبين أفراد الأسرة، وفي شؤون الحكم والسياسة والاقتصاد…
إنه دينٌ شامل ينظم شؤون الحياة جميعاً، ولا يمكن أن يؤخذ أجزاء وتفاريق. والذين يأخذون جوانب منه دون أخرى يُفقدونه فاعليته، ويوشكون أن يتفلتوا منه.
الأصل الثاني: الوحي: القرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرّف أحكام الإسلام. ويُفهم الإسلام طِبقاً لقواعد اللغة العربية، من غير تكلّف ولا تعسّف، ويُرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات.
حين قررنا شمول الإسلام، لابد أن نحدد مصدره الذي يوثّقه ويؤيده. فالقرآن والسنة هما أساس هذا الدين، بعقيدته وشريعته. وفهم الدين من نصوصه الأصلية ليس بالأمر الميسور لكل إنسان، لاسيما في ظروفٍ ضعُف فيه فقه الناس للغة العربية وأساليبها في التعبير، فإذا رافق هذا الضَعف تعسّفٌ في استخراج المعاني من وعائها اللغوي زاد الأمر خطورة.
فقه النصوص شيء غير حفظها وسرعة الاستشهاد بها. لذلك أفاض علماء أصول الفقه في ذكر ضوابط استنباط الأحكام وشروط المفتي…
ولعل الخطوة الأولى في فهم نصوص الكتاب والسنة الرجوع إلى كتب التفسير الموثوقة، وكتب شُرّاح الحديث النبوي من الأئمة الأعلام.
الأصل الثالث: نور الإيمان: وللإيمان الصادق، والعبادة الصحيحة والمجاهدة، نور وحلاوة يقذفها الله في قلب من يشاء من عباده. ولكنّ الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلّة الأحكام الشرعية، ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه.
يتحقق الإيمان الصادق بصحة الاعتقاد وصدق الاتباع، كما تتحقق العبادة الصحيحة بإخلاص النية ومتابعة عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما المجاهدة فأبوابها واسعة، فنجاهد النفس والهوى والشيطان.
ومن قطع شوطاً في طريق المجاهدة وجد حلاوة في قلبه. هذه المجاهدة يتذوقها من رضي بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً. ومن كان كذلك فهو يعمل لعقيدة وتصورٍ وفكرة، وليس لأي مخلوق.
إنه لفرق كبير بين احترام العلماء، وتقدير المجاهدين، وردّ الفضل إلى أهله… وبين تأليه المخلوقين والتعلق بهم، واعتقاد أن كل ما يقولونه إلهام، وكل خواطرهم حقائق، وكل رؤاهم مكشوف عنها الحجاب… مهما بدا عليهم من العبادة والصلاح.
الأصل الرابع: تنقية الدين من الأوهام: والتمائم والرُّقى والوَدَع والرمل والمعرفة والكهانة وادّعاء معرفة الغيب، وكل ما كان من هذا الباب منكرٌ يجب محاربته، إلا ما كان آية من قرآن، أو رقية مأثورة.
إنها قواعد وضوابط ليكون سلوك المسلم سوياً، ودعوته مؤصلة، وخطواته منهجية، ووعيه بعصره عميقاً، ثم يدعو إلى الله على بصيرة، ويسمو عن مزالق الأوهام والخرافات، ويفيء إلى الحقائق والسنن الإلهية، ويُنقي عقيدته من الشوائب، ولا يقع فريسة لدجل الدجالين، وشعوذة المبطلين…
الأصل الخامس: العبادات والعادات: ورأي الإمام ونائبه، فيما لا نصّ فيه، وفيما يحتمل وجوهاً عدّة، وفي المصالح المرسلة، معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية. وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات. والأصل في العبادات التعبّد، دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديّات الالتفات إلى الأسرار والحِكَم والمقاصد.
المراد بالرأي هو الاجتهاد. وللاجتهاد شروطه وقواعده. فليس لكل أحد أن يقول برأيه في الشرع.
والإمام هو حاكم المسلمين وأميرهم. وهذا الإمام ونائبه لهما حق الاجتهاد فيما لا نصّ فيه. فإذا اختلف الفقهاء في مسألة، فله (ولنائبه) إلزام الجماعة المسلمة برأي من الآراء التي اختُلف فيها. ثم للإمام أن يغير من اجتهاده إذا تغيرت الظروف والعادات… وهذا كله بشرط ألا يصطدم بقاعدة شرعية.
والأصل في القضايا التعبدية التسليم لله تعالى، والالتزام بأوامره، أدركنا الحكمة من وراء الأحكام أو لم ندركها. أما التشريعات الحياتية وأمور المعاملات، فنحن، مع التزامنا بها، علينا أن نبحث عن العلل والحِكَم حتى نستطيع أن نقيس عليها ونستنبط أحكاماً للوقائع التي لم يردْ فيها نصّ. وحين نعجز عن إدراك الحكمة نتهم عقولنا بالعجز، ولا نتهم الشرع، ولا نعُدّ ذلك مسوّغاً لتعطيل الحُكم.
الأصل السادس: لا معصوم إلا رسول الله: وكل أحدٍ يؤخذ من كلامه ويُترك، إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم. وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم، موافقاً للكتاب والسنة قبلناه، وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالاتّباع، ولكنا لا نعرض للأشخاص –فيما اختلف فيه- بطعن أو تجريح، ونكِلُهم إلى نياتهم، وقد أفضَوا إلى ما قدّموا.
إنها المعالجة لميل القلب حين يجنح فيتعصب لمخلوق أو عليه! فالطاعة المطلقة إنما هي لله تعالى وحده، ثم لنبيه صلى الله عليه وسلم، بما أنه مبلَّغ عن الله، معصوم. والخطأ من الخلق بعد ذلك ممكن، فحيثما تبيّن لنا أن كلاماً أو عملاً يخالف الكتاب والسنة رددناه، أيّاً كان صاحبه. لكننا نحسن الظن بأهل الخير، ولا نحمل عليهم، ولا نجرّحهم، بل نترحّم عليهم. فقد يكون هناك خطأ في النقل عنهم، وقد يكون أحدهم قد تراجع وتاب… والله أعلم بما في قلوب العباد.
الأصل السابع: الاجتهاد والاتّباع والتقليد: ولكل مسلم لم يبلُغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية، أن يتّبع إماماً من أئمة الدين. ويحسُنُ به – على هذا الاتباع – أن يجتهد ما استطاع في تعرّف أدلته، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صحّ عنده صلاح من أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمي، إن كان من أهل العلم، حتى يبلغ درجة النظر.
وإذاً فللمسلم الحق في اختيار مذهبه الفقهي. حيث يكمن الخلاف في أدلة الأحكام الفرعية، أي الأحكام العملية في العبادات والمعاملات… وليس في أمور العقيدة. فليس التقليد في العقيدة مشروعاً.
وعليه أن يدرس المذهب الفقهي ويتقن أدلة الأحكام بقدر طاقته، وأن يرتفع إلى آفاق التحقيق إن استطاع ذلك. وبذلك يبدأ مقلِّداً، ويتحول إلى متبع عارف بالدليل، وقد يرتقي إلى درجة النظر وهي مرحلة على عتبة الاجتهاد، وذلك حسب جهده وما أعطاه الله من قوة وفهم وذكاء…
إنه أدب السير العلمي، وأدب قبول الإرشاد والنصيحة والتربية، والأدب مع الدليل من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
الأصل الثامن: الخلاف في الفروع لا يؤدي إلى اختلاف القلوب: والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سبباً للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة وبغضاء. ولكل مجتهد أجره. ولا مانع من التحقيق النزيه في مسائل الخلاف، في ظل الحب في الله، والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجرّ ذلك إلى المراء المذموم والتعصّب.
وسنشرح هذا الكلام، بكلام للإمام البنا نفسه، قاله في أماكن أخرى:
“يجب أن نعلم أن الخلاف الفقهي في الفرعيات أمر ضروري لابدّ منه (أي سيقع لا محالة) إذ إن أصول الإسلام آيات وأحاديث وأعمال، تختلف في فهمها وتصورها العقول والأفهام. لذا كان الخلاف واقعاً بين الصحابة أنفسهم، وما زال كذلك، وسيظل إلى يوم القيامة”.
“إن الخلاف أيها الإخوان، قد يتناول فروع الأعمال والعبادات ولا يرقى بحال إلى مرتبة العقيدة. وهذا الخلاف لا يُحرج صدراً ولا يؤذي أحداً، وأمره دائر بين خطأ وصواب. فإذا عرفنا أن المخطئ والمصيب مأجوران، هان الخَطب، واستطعنا في ظل الإخاء والحب أن نصل إلى الحقيقة…”.
“وأعتقد أيها الإخوان، أنه لو حُدّدت العبارات، وتعرف كل فريق على مقاصد الآخر، ولم يتقيد بعبارات ومصطلحات خاصة، ما دام المعنى المقصود سليماً، أعتقد أننا لو فعلنا ذلك وحاولنا التقريب بين وجهات النظر،لاستطعنا الجمع بين الآراء المتنافرة، والفكر المتخالف، ولوصلنا إلى نتيجة محمودة، أقلّها أن نخرج من حيّز كفر وإيمان، إلى حيز خطأ وصواب”.
الأصل التاسع: ندعُ الجدال فيما لا طائل وراءه: وكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نُهينا عنه شرعاً ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع، والخوض في معاني الآيات القرآنية الكريمة التي لم يصل إليها العلم بعد، والكلام في المفاضلة بين الأصحاب – رضوان الله عليهم- وما شجر بينهم من خلاف، ولكل منهم فضلُ صحبته، وجزاء نيّته. وفي التأوّل مندوحة.
كان من أدب الصحابة أنهم لا يسألون عن شيء لم يقع. فإذا وقعت واقعة بحثوا عن حكم الله فيها. وهناك مسائل لا تفيد في أمر دنيا ولا دين، فهي لا تستحق أن نَشْغَل فيها وقتاً أو جهداً، والبحث فيها من التكلف الذي نهينا عنه، ففي الصحيح: “نُهينا عن التكلّف” رواه البخاري.
ومن ذلك الخوض في معاني الآيات القرآنية التي لم يصل العلم إلى تفسيرها. أما إذا اكتفى المرء ببيان فهمه لها من غير جدل ولا تعصب ولا ادعاء بأنه المعنى القطعي، فلا بأس بذلك. وهو شأن العلماء في جميع العصور.
والمفاضلة بين الصحابة فيما فيه نص صحيح، أمر مقبول وجيد، على أن لا يكون ذلك بقصد إثارة الفتنة، أو يكون متضمناً الانتقاص من صحابة آخرين، أما فيما لا نص فيه فالمفاضلة من الهوى والعبث.
وما حصل بين الصحابة من خلاف لا ينفي فضلهم، ولا يدعو إلى اتهام أحد منهم بغير ما دليل ظاهر، بل نتأول لهم، ونقول: إن ما حصل كان نتيجة اجتهاد، فبعضهم أصاب، وبعضهم أخطأ، وذلك أسلم لقلوبنا.
الأصل العاشر: نردّ المتشابه إلى المُحْكَم: معرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام. وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة، وما يليق بذلك من المتشابه، نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء، ويسعُنا في ذلك ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ﴿والراسخون في العلم يقولون: آمنا كلٌّ من عند ربّنا﴾.
هناك آيات كريمة وأحاديث صحيحة تصف الله عزّ وجلّ بصفات قد يتوهم منها الإنسان تشبيه الله سبحانه بخلقه. هذه النصوص كان الصحابة يؤمنون بها، ولا يؤوّلونها، مع استقرار معنى التنزيه ونفي التشبيه في أنفسهم، ولكن في الأجيال التالية، وُجد من ينفي تلك الصفات، ووُجد المشبّهة الذين يشبهون الله ببعض مخلوقاته. وحيال ذلك انقسم جمهور علماء الأمة إلى مذهبين: مذهب التزم موقف السلف، وعدّ ما سواه بدعة.
ومذهب اتخذ موقفاً يردّ فيه على شبهات المشبّهين ونفاة الصفات، فاقتضى ذلك تفصيلات تدور حول تأويل تلك النصوص وفق أساليب العربية وبلاغتها، بما يدفع عن النفس أوهام التشبيه.
وترتب على ذلك معارك كلامية بين المذهبين. واختار الإمام البنا الميل إلى مذهب السلف في ذلك من غير الوقوع في تلك المعارك واتهام المذهب الآخر بالضلال…
يقول الإمام البنا في رسالة العقائد:
” المعنى الذي يُقصد باللفظ في صفات الله تبارك وتعالى يختلف اختلافاً كلياً عن المعنى الذي يقصد بهذا اللفظ عينه في صفات المخلوقين… لأنه تبارك وتعالى لا يشبه أحداً من خلقه. فتفطّنْ لهذا المعنى فإنه دقيق”.
الأصل الحادي عشر: نتجنّب البدعة: وكل بدعة في دين الله لا أصل لها – استحسنها الناس بأهوائهم، سواء بالزيادة فيه، أو بالنقص منه – ضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى ما هو شرٌّ منها.
البدعة في اللغة كل أمر جديد مستحدث، فتشمل ما هو خير وما هو شر، والبدعة في الشرع أمر مستحدث في الدين، فهو ضلالة، إلا إذا كان له أصل في الشرع مما يدخل في المصلحة المرسلة مثلاً. فكتابة المصاحف وجمع الحديث النبوي… يقع تحت أصل حفظ الدين، وهو من أوجب ما أمر به الدين. فإذا كان الدين لم يأمر صراحة بكتابة المصحف وجمع الحديث فإن هذين العملين من المصلحة التي اعتبرها الشرع، فلا تسمى بدعة بالمعنى الشرعي. أما البدع التي لا أصل لها، بل استحسنها الناس بأهوائهم فهي الضلالة.
الأصل الثاني عشر: التمحيص في شأن البدعة: والبدعة الإضافية والتَّركية، والالتزام في العبادات المطلقة خلاف فقهي، لكل فيه رأيه. ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان.
البدعة الإضافية هي كل عمل أصله مشروع ولكن اختلفت فيه الكيفية، كالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان وكأنها جزء منه. فهي مشروعة في الأصل، وجرى الخلاف في حكمها بسبب هذه الكيفية.
والالتزام في العبادات المطلقة هو أداء عبادة بالتزام عدد لها أو مكان أو زمان، مع أن الشرع لم يشرع هذا الالتزام والتحديد.
فهذه الأمور يتنازعها جانبان. جانب الشرعية وجانب البدعية. ولا يحسن التسرع في إطلاق حكم نهائي في أي أمر منها إلا بعد التمحيص والتحقيق.
والبدعة التَّركيّة: هي ترك أمر مشروع، بغية التقرب إلى الله تعالى.
الأصل الثالث عشر: تكريم الأولياء والصالحين: ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عُرف من طيب أعمالهم، قربة إلى الله تبارك وتعالى. والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى: ﴿الذين آمنوا وكانوا يتقون﴾. والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية، مع اعتقاد أنهم – رضوان الله عليهم- لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً في حياتهم أو بعد مماتهم، فضلاً على أن يَهَبُوا شيئاً من ذلك لغيرهم.
الصالحون هم الذين أحبوا لله، وأبغضوا لله، وأخذوا لله، وتركوا لله. قلوبهم صافية، وعيونهم باكية، وأيديهم حانية، وأرجلهم إلى الخير ساعية، وأعمالهم خالصة. يبيت أحدهم وليس في صدره غِلٌّ على أحد… وقد أثنى الله تعالى على من كانت هذه صفاته. وهم أهل لأن نثني عليهم.
وأولياء الله هم ﴿الذين آمنوا وكانوا وكانوا يتقون﴾، والكرامة ثابتة لهم شرعاً، وهي ما كانت خرقاً لعادة. والولاية والكرامة مرتبطان بالتقوى ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ ولكن ليس معنى ذلك أن الأولياء معصومون عن الخطأ، أو أنهم يملكون الضر والنفع، أو أنهم يعلمون الغيب، فسيد الأولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره ربّه تعالى أن يقول: ﴿قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله. ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء﴾.
الأصل الرابع عشر: زيارة القبور: وزيارة القبور، أياً كانت، سنة مشروعة بالكيفية المأثورة، ولكن الاستعانة بالمقبورين، أياً كانوا، ونداءهم لذلك، وطلب الحاجات منهم عن قُرب أو بعد، والنذر لهم، وتشييد القبور وسترها وإضاءتها والتمسح بها، والحلف بغير الله، وما يلحق بذلك من المبتدعات، كبائر تجب محاربتها. ولا نتأول لهذه الأعمال، سداً للذريعة.
أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه زيارة القبور، وعلّمهم كيفيتها. ولقد زارها عليه الصلاة والسلام وزارها أصحابه رجالاً ونساءً، ودرج المسلمون الأولون على ذلك للعظة والاعتبار وترقيق القلوب والتذكير بالقبر وما بعده. فعن بريدة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام عليكم يا أهل الديار من المسلمين والمؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع، نسأل الله لنا ولكم العافية. رواه مسلم.
ولكن أن يعتقد المسلم أثناء الزيارة أن صاحب القبر يضر وينفع فيطلب منه قضاء الحاجات وينذر له، إن تحقق له طلبه، أن يفعل كذا وكذا، فهذه كبائر يجب على المسلم تركها فوراً.
وكم نجد في أيامنا هذه من إذا أراد أن يصدق الآخرون كلامه تصديقاً تاماً، حلف برأس أبيه أو شيخه، أو حلف بحياة أبنائه. والغريب أن من حوله يصدقون كلامه وهو يحلف بهذه الأشياء، وربما لو حلف بالله لما كان ليمينه هذه قوة تأثير الأيمان السابقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله تعالى نهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت” متفق عليه. والسر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده.
فهذه الأشياء وما يلحق بها من المبتدعات كبائر تجب محاربتها من باب النهي عن المنكر، وذلك حسب القواعد الشرعية.
الأصل الخامس عشر: التوسّل: والدعاء إذا قُرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه، خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة.
أي أن من توجه إلى الله تعالى وحده بالدعاء سائلاً إياه بجاه نبي أو ولي، بمعنى أنه أقسم على الله بحق النبي أو الولي، فقال: أقسم عليك يا رب بحق فلان، أو قال: أتوسل إليك يا رب بفلان… فهذا التوسل خلاف فقهي يسوغ فيه الاجتهاد، ولا يترتب عليه فساد الاعتقاد.
أما لو توجه إلى الميت بالدعاء، يسأله ويطلب منه، فهو كبيرة.
الأصل السادس عشر: العُرف: والعرف الخاطئ لا يغير حقائق الألفاظ الشرعية، بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود بها، والوقوف عندها. كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي الدنيا والدين، فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء.
العرف في الاصطلاح الفقهي هو عادةُ جمهور قومٍ في قول أو عمل. وقد جاءت الشريعة الإسلامية فأقرت كثيراً من التصرفات والحقوق المتعارفة بين العرب، وهذبت كثيراً، ونهت عن كثير. ولكي يكون للعرف سلطان يجب أن يكون غالباً بين الناس في المكان الجاري فيه، وأن لا يعارض نصاً شرعياً أو أصلاً قطعياً في الشريعة.
فالنصوص التشريعية يجب أن تُفهم مدلولاتها اللغوية والعرفية في عصر صدور النص، لأنها هي مراد الشارع، ولا عبرة لتبدل الألفاظ في الأعراف الزمنية المتأخرة، وإلا فلن يستقر للنص التشريعي معنى.
فالمعنى العرفى للفظ “ابن السبيل” هو من ينقطع من الناس في السفر، فإذا تبدّل عُرف الناس فأصبح معنا “ابن السبيل” هو الطفل اللقيط الذي لا يُعرف له أهل، فإن النص التشريعي يظل محمولاً على معناه العرفي الأول عند صدوره، ومعمولاً به في حدود ذلك المعنى لأنه هو مراد الشارع. وكذلك يجب علينا الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي الدنيا والدين، فعادة أعداء الإسلام أـن يستخدموا مصطلحات خادعة برّاقة يستحسن الناس معناها، بينما معناها في الشرع مرفوض، فالمشروبات الروحية يقصدون بها الخمور، والفائدة يقصدون بها الربا، واليانصيب الخيري يقصدون به الميسر، والروح الجامعية يقصدون بها اختلاط الطلاب بالطالبات، والتطرف والإرهاب يقصدون بهما التمسك بالإسلام والجهاد في سبيله… إلخ، وكل هذه الأسماء لا تغير من حقيقة المسميات شيئاً، والمطلوب منّا أن نكون حذرين منها دائماً.
الأصل السابع عشر: الاعتقاد والعمل: والعقيدة أساس العمل، وعمل القلب أهم من عمل الجارحة، وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب شرعاً، وإن اختلفت مرتبتا الطلب.
الإسلام دين الله؛ وهو اعتقاد وعمل؛ فالاعتقاد في القلب، والعمل في الجوارح، وكلاهما يرتبط بالآخر. والاعتقاد الصحيح العميق يورث استقامة في السلوك، وسموّاً في الأخلاق، وصفاءً في النفوس.
وإن أي مرض في القلب سيورث انحرافاً في السلوك، ومعصية لله تعالى، فإذا وصل المرض إلى الكفر أو النفاق فقد حبط العمل كله.
من أعمال القلب: الإيمان بالله والتوكل عليه والإخلاص له وشكر نعمه، والرضى بقضائه، والندم على معصيته…
ومن أمراض القلب العُجْب والكِبْر والحسد والغرور والرياء.
وأعمال الجوارح هي القيام بما أمر الله من عبادات، وضبط المعاملات والأخلاق بميزان الشرع. وهذه الأعمال مهمة جداً لكنها تأتي في الميزان بعد أعمال القلب.
الأصل الثامن عشر: تحرير العقل: والإسلام يحرر العقل، ويحث على النظر في الكون، ويرفع قدر العلم والعلماء، ويرحب بالصالح النافع من كل شيء. و”الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق الناس بها”.
لاشك أن الإسلام بعقيدته الصافية يحرر العقل من سلطان الخرافة والوهم والجمود والتقليد، ذلك لأن العقيدة ترسخ الحقائق في العقول، وتدحض الانحراف والضلال، وتنبه الإنسان إلى مشاهد هذا الكون بإثارة نزوعه الفطري الأصيل نحو التأمل المنتج، والتدبر الهادف فيما خلق الله في هذا الكون من مخلوقات تدل بروعة إنشائها، ودقة إحكامها، وكمال تناسقها على عظمة بارئها، وقدرة مصورها.
وجعل الإسلام العلم عنصراً من عناصر تكوين الإنسان، وسراً من أسرار تكوينه ﴿وعلّم آدم الأسماء كلّها… ﴾، وأمر بتكريم العلماء لأنهم أولى بخشية الله ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماءُ﴾، ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾.
والمسلم أحق الناس باتباع الحكمة واقتباسها والإفادة من كل ما ينفع، فهو يؤمن بالله ويدافع عن دينه، ويعمل في بناء الأرض وزراعتها… ويستفيد في ذلك كله مما أنتجه العقل البشري من سلاح حديث، وطرق فعالة في الزراعة والصحة والمواصلات…
الأصل التاسع عشر: القطعي والظنّي: وقد يتناول كل من النظر الشرعي والنظر العقلي ما لا يدخل في دائرة الآخر، ولكنهما لن يختلفا في القطعي. فلن تصطدم حقيقة علمية صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة، ويؤوَّل الظني منهما ليتفق مع القطعي، فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولى بالاتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار.
إن العقول لا تهتدي إلى معرفة كل ما ينفع الإنسان في حياته ليأخذ به، ولا إلى معرفة كل ما يضر الإنسان ليجتنبه وينجو مما يضره إلا في ضوء الشرع الإلهي ونور وحيه. فتاريخ الفلسفة وتراث الفكر الإنساني وحصيلة العلم تشهد بعجز العقل عن معرفة حقيقة الكون أو إدراك أسرار الحياة أو الإحاطة بالخالق، أو أن تقول كلمة الفصل في حقيقة النشأة والمصير. لقد أطلق الإسلام للعقل أن يفكر فيما ينبغي، وأطلق الإسلام للمسلم آفاق البحث العلمي، فإذا وصل العقل أو العلم إلى شيء فذلك مسلّم به شرعاً مع ملاحظة أن الشرع لم يتكلم في كثير من تفصيلات ما يصل إليه العقل أو ما يستكشفه البحث العلمي ولكن حيث تكلم فإن التناقض مستحيل بين النص الشرعي القطعي الثبوت وبين الحكم العقلي الخالص أو الحقيقة العلمية.
وهناك حالات يكون النص الشرعي فيها محتملاً لوجوه عدة، فإذا جاءت الحقيقة العلمية ترجح أحد هذه الاحتمالات تعيّن في هذه الحالة قبول ما وافق الحقيقة العلمية. أما الحالات التي لا يجزم فيها العلم، والنص الشرعي فيها قطعي الثبوت والدلالة، فالظن العلمي هنا مرفوض قطعاً، وقد يحتمل النص الشرعي وجوهاً عدة، والعلم لم يجزم فيها، فهنا مجال البحث واسع. وهناك حالات يكون النص الشرعي فيها ظني الثبوت، والعلم لم يجزم، فنبقى نحن مع النص الشرعي وإن كان ظني الثبوت حتى يثبت العقلي أو ينهار.
الأصل العشرون: ضوابط التكفير: لا نكفّر مسلماً أقرّ بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض – برأي أو معصية – إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو كذّب صريح القرآن، أو فسّره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر.
إن قضية التكفير من أخطر القضايا التي أثّرت على وحدة المسلمين قديماً وحديثاً ففرقتهم وجعلت بعضهم يسفك دماء بعض، وبسببها وُجدت فرق انشقت عن جسم الأمة الإسلامية.
في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان النطق بالشهادتين هو علامة الدخول بالإسلام فمن شهد الشهادتين وآمن بمقتضى ذلك، أي آمن بالإسلام كله، ولم يأت بناقض من نواقض الشهادتين، ولم ينكر معلوماً من الدين بالضرورة فهو مسلم، وإن قصّر في العمل بأن ترك أمراً أو عصى في نهي، ما لم يكن عصيانه ارتكاب ناقض من نواقض الشهادتين.
الإنسان يدخل هذا الدين بالنطق بالشهادتين، وبذلك يُلزم نفسه بأحكام الإسلام جميعاً لكنه لا يكون خارجاً من الإسلام مرتداً عنه بوقوعه في معصية أو تركه واجباً، بل بارتكابه أموراً تنقض الإيمان في قلبه وهي الإقرار بكلمة الكفر أو إنكار معلوم من الدين بالضرورة…
***
وبهذه الأصول العشرين العشرين في ركن الفهم يرسي الإمام البنا القواعد التي تصفي كثيراً من الأمور الخلافية في باب الاعتقاد. بل نقول: إنه وضع فيها حجر الأساس لفهم إسلامي عالمي موحد. ولقد أدخل الإمام البنا في ركن الفهم كل ما هو ضروري لفهم الإسلام ولانطلاق حركة المسلمين.
لقد وجدت بعد مسيرة أربعة عشر قرناً عوامل مفتتة لوحدة المسلمين، ووجدت اتجاهات خاطئة وفهوم قاصرة، وتيارات عاتية، فكان لابد من فهم صحيح على ضوئه يكون انطلاق صحيح، وهذا الفهم يجمع عليه المسلمون ويستطيعون بالتزامهم فيه أن يتحركوا نحو تحقيق الأهداف.
***
الركن الثاني: الإخلاص
وأريد بالإخلاص: أن يقصد الأخ المسلم بقوله وعمله وجهاده كله وجه الله وابتغاء مرضاته، من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب، وبذلك يكون جندي فكرة وعقيدة، لا جندي غرض ومنفعة.
الركن الثالث: العمل
وأريد بالعمل: ثمرة العمل والإخلاص. ومراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق هي:
1- إصلاح نفسه حتى يكون: قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر، قادراً على الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهداً لنفسه، حريصاً على وقته، منتظماً في شؤونه، نافعاً لغيره.
2- تكوين بيت مسلم، بأن يحمل أهله على احترام فكرته، والمحافظة على آداب الإسلام في كل مظاهر الحياة المنزلية، وحسن اختيار الزوجة، وحسن تربية الأولاد وتنشئتهم على مبادئ الإسلام.
3- وإرشاد المجتمع، بنشر دعوة الخير فيه، ومحاربة الرذائل والمنكرات، والأمر بالمعروف، وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية، وصبغ مظاهر الحياة العامة بها دائماً.
4- وتحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي – غير إسلامي- سياسي أو اقتصادي أو روحي.
5- وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق، وبذلك تؤدي مهمتها خادماً للأمة وأجيراً عندها. والحكومة الإسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير مجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه.
– ولا بأس بأن تستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة.
– ولا عبرة بالشكل الذي تتخذه ولا بالنوع ما دام موافقاً للقواعد العامة في نظام الحكم الإسلامي.
– ومن صفاتها: الشعور بالمسؤولية، والشفقة على الرعية، والعدالة بين الناس، والعفة عن المال العام، والاقتصاد فيه.
– ومن واجباتها: صيانة الأمن وإنفاذ القانون، ونشر التعليم، وإعداد القوة، وحفظ الصحة، ورعاية المنافع العامة، وتنمية الثروة، وحراسة المال، وتقوية الأخلاق، ونشر الدعوة.
ومن حقها متى أدت واجبها، الولاء والطاعة والمساعدة بالنفس والأموال. فإذا قصرت فالنصح والإرشاد، ثم الخلع والإبعاد، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
6- وإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، بتحرير أوطانها، وإحياء مجدها، وتقريب ثقافاتها، وجمع كلمتها حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة.
7- وأستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام في ربوعه. ﴿ويأبى الله إلا أن يتم نوره﴾.
وما أثقلها من تبعات وما أعظمها من مهمات، يراها الناس خيالاً، ويراها الأخ المسلم حقيقة، ولن نيأس أبداً، ولنا في الله أعظم الأمل.
الركن الرابع: الجهاد
وأريد بالجهاد: الفريضة الماضية إلى يوم القيامة، والمقصود بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من مات ولم يغزُ ولم ينوِ الغزو مات ميتة جاهلية”. وأول مراتبه إنكار القلب، وأعلاها القتال في سبيل الله، وبين ذلك: جهاد اللسان والعلم واليد وكلمة الحق عند السلطان الجائر، ولا تحيا الدعوة إلا بالجهاد. وبقدر سموّ الدعوة وسعة أفقها تكون عظمة الجهاد في سبيلها وضخامة الثمن الذي يطلب لتأييدها، وجزالة الثواب للعاملين. وبذلك تعرف معنى هتافك الدائم: “الجهاد سبيلنا”.
الركن الخامس: التضحية
وأريد بالتضحية: بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية. وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه. ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل. ومن قعد عن التضحية في سبيل الله فهو آثم. ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم﴾ التوبة: 111.
الركن السادس: الطاعة
وأريد بالطاعة: امتثال الأمر وإنفاذه توّاً في العسر واليسر والمنشط والمكره، وذلك أن مراحل هذه الدعوة ثلاث:
1- التعريف: بنشر الفكرة العامة بين الناس من خلال نظام الجمعيات الإدارية التي مهمتها العمل للخير العام. والدعوة في هذه المرحلة “عامة”، ويتصل بالجماعة فيها كل من أراد من الناس متى رغب بالمساهمة في أعمالها ووعد بالمحافظة على مبادئها، وليست الطاعة التامة لازمة في هذه المرحلة بقدر ما يلزم فيها احترام النظم والمبادئ العامة للجماعة.
2- التكوين: باستخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد وضم بعضها إلى بعض. ونظام الدعوة في هذه المرحلة – صوفي بحت من الناحية الروحية، وعسكري بحت من الناحية العملية. وشعار هاتين الناحيتين دائماً “أمر وطاعة” من غير تردد ولا مراجعة ولا شك ولا حرج. والدعوة فيها خاصة لا يتصل بها إلا من استعد استعداداً حقيقياً لتحمل أعباء جهاد طويل المدى كثير التبعات، وأول بوادر هذا الاستعداد “كمال الطاعة”.
3- التنفيذ: والدعوة في هذه المرحلة جهاد لا هوادة معه، وعمل متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية، وامتحان وابتلاء لا يصبر عليهما إلا الصادقون، ولا يكفل النجاح في هذه المرحلة إلا “كمال الطاعة كذلك”.
الركن السابع: الثبات
وأريد بالثبات: أن يظل الأخ عاملاً مجاهداً في سبيل غايته، مهما بعُدت المدة وتطاولت السنوات، حتى يلقى الله على ذلك وقد فاز بإحدى الحسنيين. والوقت عندنا جزء من العلاج، والطريق طويلة المدى كثيرة العقبات ولكنها وحدها التي تؤدي إلى المقصود مع عظيم الأجر ﴿ويقولون: متى هو؟ قل: عسى أن يكون قريباً﴾.
الركن الثامن: التجرد
وأريد بالتجرد: أن تتخلص لفكرتك مما سواها من المبادئ والأشخاص، لأنها أسمى الفِكَر وأجمعها وأعلاها ﴿صِبغة الله ومن أحسن من الله صِبغة﴾. والناس عند الأخ الصادق واحد من ستة أصناف: مسلم مجاهد، أو مسلم قاعد، أو مسلم آثم، أو ذمي معاهد، أو محايد، أو محارب. ولكل حكمه في ميزان الإسلام. وفي حدود هذه الأقسام يكون الولاء أو العداء.
الركن التاسع: الأخوّة
وأريد بالأخوة: أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، وهي أوثق الروابط وأغلاها، والأخوة أخوة الإيمان، والتفرق أخو الكفر. وأول القوة قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب سلامة الصدر، وأعلاه مرتبة الإيثار.
والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه، لأنه إن لم يكن بهم فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
الركن العاشر: الثقة
وأريد بالثقة: اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه، اطمئناناً ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة.
والقائد جزء من الدعوة، ولا دعوة بغير قيادة. وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة، وإحكام خططها، ونجاحها في الوصول إلى غاياتها. وللقيادة في دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبية، والأستاذ بالإفادة العلمية، والشيخ بالتربية الروحية، والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة.
والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات، ولهذا يجب أن يسأل الأخ الصادق نفسه هذه الأسئلة ليتعرف مدى ثقته بقيادته:
1- هل تعرّف إلى قائده من قبلُ، ودرس ظروف حياته واطمأن إلى كفايته وإخلاصه؟
2- هل هو مستعد لاعتبار الأوامر التي تصدر إليه من القيادة – في غير معصية طبعاً – قاطعة لا مجال فيها للجدل ولا للتردد؟ مع إبداء النصيحة والتنبيه إلى الصواب؟
3- هل هو مستعد لأن يفترض في نفسه الخطأ وفي القيادة الصواب، إذا تعارض ما أُمر به، مع ما تعلّم في المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص شرعي؟
4- هل هو مستعد لوضع ظروفه الحيوية تحت تصرف الدعوة؟ وهل تملك القيادة في نظره حق الترجيح بين مصلحته الخاصة ومصلحة الدعوة العامة؟
وبالإجابة على هذه الأسئلة وأشباهها يستطيع الأخ أن يطمئن على مدى صلته بالقائد، وثقته به.
أيها الأخ الصادق: إن إيمانك بهذه البيعة يوجب عليك أداء واجبات كثيرة، منها: أن يكون لك وِرد يومي من كتاب الله عز وجل لا يقل عن جزء، وأن تحسن تلاوة القرآن والاستماع إليه والتدبر في معانيه، وأن تدرس السيرة المطهرة وتاريخ السلف، وأن تُكثر من القراءة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تحفظ أربعين حديثاً على الأقل، وأن تدرس رسالة في أصول العقائد، ورسالة في فروع الفقه. وأن تبادر بالكشف الصحي العام، وتهتم بأسباب القوة، وتبتعد عن الإسراف في قهوة البن والشاي، وأن تمتنع بتاتاً عن التدخين، وأن تعنى بالنظافة في كل شيء، وأن تكون صادق الكلمة فلا تكذب أبداً، وأن تكون وفياً بالعهد والكلمة والوعد، وأن تكون شجاعاً عظيم الاحتمال، وأن تكون وقوراً تؤثِر الجِدّ دائماً، وأن لا يمنعك الوقار من المزاح الصادق والضحك في تبسم، وأن تكون شديد الحياء رقيق الشعور، وأن تكون متواضعاً في غير ذلة ولا خنوع ولا مَلَق، وأن تكون عادلاً لا ينسيك الغضب الحسنات، ولا تغضي عين الرضى عن السيئات، وأن تكون عظيم النشاط مدرباً على الخدمات العامة، وتبادر دائماً إلى الخيرات. وأن تكون رحيم القلب كريماً سمحاً، محافظاً على الآداب الإسلامية الاجتماعية، وأن تجيد القراءة والكتابة، وتكثر من المطالعة وتكوّن لنفسك مكتبة خاصة، وأن تتبحر في عملك وفنك إن كنت من أهل الاختصاص، وأن تلم بالشؤون الإسلامية عامة، وأن تزاول عملاً اقتصادياً مهما كنت غنياً ومهما كانت مواهبك العلمية، وأن تحرص كل الحرص على أداء مهنتك من حيث الإجادة وعدم الغش وضبط الموعد، وأن تؤدي حقوق الناس كاملة بدون طلب، ولا تماطل أبداً وأن تبتعد عن الميسر بكل أنواعه، وتتجنب وسائل الكسب الحرام، وأن تبتعد عن الربا في جميع المعاملات، وأن تخدم الثروة الإسلامية العامة، وأن تحرص على القرش فلا يقع في يد غير إسلامية، وأن تشترك في الدعوة بجزء من مالك، وتؤدي الزكاة الواجبة فيه، وأن تجعل منه حقاً معلوماً للسائل والمحروم مهما كان دخلك ضئيلاً، وأن تدخر جزءاً من دخلك للطوارئ وألا تتورط في الكماليات أبداً، وأن تعمل ما استطعت على إحياء العادات الإسلامية وإماتة العادات الأعجمية، وأن تقاطع كل قضاء غير إسلامي، وكل الهيئات التي تناهض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة، وأن تديم مراقبة الله عز وجل وتستعد للآخرة وتتقرب إلى الله تعالى بنوافل العبادة.
وأن تُحسن الطهارة وتظل على وضوء في غالب الأحيان، وأن تُحسن الصلاة وتؤديها في أوقاتها، وأن تحرص على الجماعة والمسجد ما أمكن ذلك، وأن تستصحب دائماً نية الجهاد وحب الشهادة، وأن تستعد لذلك، وأن تجدد التوبة والاستغفار دائماً، وأن تتحرر من صغائر الآثام فضلاً عن كبارها، وأن تجعل لنفسك ساعة قبل النوم تحاسبها فيها على ما عملت من خير أو شر، وأن تحرص على الوقت فهو الحياة، وأن تتورع عن الشبهات، وأن تجاهد نفسك جهاداً عنيفاً حتى يسلُس قيادُها لك، وأن تبتعد عن أقران السوء وأصدقاء الفساد وأماكن المعصية والإثم، وأن تبتعد عن مظاهر الترف والرخاوة جميعاً وأن تعرف أعضاء كتيبتك فرداً فرداً، معرفة تامة، وتؤدي حقوق أخوّتهم كاملة، وأن تحضر اجتماعاتها فلا تتخلف عنها إلا بعذر قاهر، وأن تتخلى عن صلتك بأية هيئة أو جماعة لا يكون الاتصال بها في مصلحة فكرتك، وأن تعمل على نشر دعوتك في كل مكان وأن تعتبر نفسك دائماً جندياً في الثكنة تنتظر الأمر.
أيها الأخ الصادق:
هذا مجمل لدعوتك، وبيان موجز لفكرتك، وتستطيع أن تجمع هذه المبادئ في خمس كلمات: الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن شرعتنا، والجهاد سبيلنا، والشهادة أمنيتنا. وأن تجمع مظاهرها في خمس كلمات أخرى: البساطة. والتلاوة. والصلاة. والجندية. والخلق. فخذ نفسك بشدة بهذه التعاليم، وإلا ففي صفوف القاعدين متسع للكسالى والعابثين.
وأعتقد أنك إن عملت بها وجعلتها أمل حياتك وغاية غاياتك، كان جزاؤك العزة في الدنيا والخير والرضوان في الآخرة، وأنت منا ونحن منك، وإن انصرفت عنها وقعدت عن العمل لها فلا صلة بيننا وبينك، وإن تصدرت فينا المجال وحملت أفخم الألقاب، وسيحاسبك الله على قعودك أشد الحساب. فاختر لنفسك، ونسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق.

محمد عادل فارس