الإخوان المسلمون في سورية

دلالات انسحاب القوات الأمريكية من سوريا

محمد زاهد جول

 

لم يكن قرار أمريكا الانسحاب العسكري من سوريا بتاريخ 19 ديسمبر/كانون الأول الجاري مفاجئاً، فقد أعلن الرئيس الأمريكي ترامب عن رغبته بذلك منذ بداية تسلمه للسلطة، من دون أن يتمكن من تنفيذه، لأن رؤية وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) ومعظم أعضاء الكونغرس مغايرة لرؤية البيت الأبيض في هذه المسألة، بدليل التصريحات الكثيرة خلال السنتين الماضيتين، التي ترفض الانسحاب وتقرنه بشروط كثيرة، ولكن توقيته الحالي مفاجئ وغريب فعلاً، فما الذي حصل حتى تتخذ الإدارة الأمريكية هذا القرار السريع؟ وما هي الأسباب الحقيقية وراءه؟ إن كان سيتم فعلاً؟

 

لقد وجه مسؤول أمريكي قبل أيام قليلة تهديداً للمعارضة السورية بعدم التعرض للتنظيمات التي تدعمها أمريكا شمال سوريا وهي “قوات سوريا الديمقراطية”، وقد فهم من ذلك أن أمريكا سوف تتدخل عسكرياً ضد الجيش السوري الحر المشارك في العملية العسكرية التركية المقبلة، وهذا ما كان سوف يعتبر اصطداماً مباشراً بين حلفاء الجيش التركي والأمريكي، وبالأخص أنه كان سيؤدي إلى تعثر العملية العسكرية التركية، التي تستند في الأصل إلى قتال أصحاب الأرض من الشعب السوري لتحرير أراضيهم ومدنهم وقراهم، وطرد التنظيمات الإرهابية منها، فكيف انقلب الموقف الأمريكي بهذه السرعة وخلال أيام قليلة؟

 

وسبب الغرابة الآخر هو أن كل التصريحات الأمريكية الأخيرة، كانت ترفض الانسحاب من سوريا، وتتعذر بوجود تهديد من تنظيم “داعش” أولاً، وبوجود قوات إيرانية في سوريا ثانياً، وأن أمريكا تشترط خروجها وميليشياتها من سوريا قبل سحب قواتها، وكان من آخر التصريحات الأمريكية، رفض الانسحاب العسكري من سوريا حتى تتمكن قوات داخلية من سوريا من ضمان الأمن فيها، ومنع عودة تنظيم “داعش”.

 

ولعل أكثر الدول ترحيباً بالانسحاب الأمريكي هي الدولة الروسية، وبالفعل فقد رحبت الخارجية الروسية بإعلان أمريكا الانسحاب من سوريا، واعتبرت أن ذلك الانسحاب خطوة مساعدة للحل السياسي، وهو تقييم من المفترض أن يكون صحيحاً، فما كان من الممكن إيجاد حل سياسي في سوريا مع وجود قواعد عسكرية أمريكية فيها، وهذا ما يفرض سؤالاً: هل من الممكن أن يكون الانسحاب الأمريكي خطوة ضرورية لتشكيل هيئة صياغة الدستور؟ أم أنها شرط تركي وإيراني وروسي لتسهيل تشكيل هيئة صياغة الدستور، بالتوافق مع الأمم المتحدة والمبعوث الدولي ديمستورا التي كانت مقررة نهاية هذا الشهر؟

 

أما الدولة الأكثر قلقاً من الانسحاب الأمريكي من سوريا فهي الدولة “الإسرائيلية”، التي أعلنت احترامها للقرار الأمريكي، ولكنها تعهدت أن تواصل جهودها بمنع إيران من تثبيت قواتها في سوريا، ولا شك بأن أمريكا لا تقدم على مثل هذا القرار من دون الاتفاق مع الدولة “الإسرائيلية”، وأنها خطوة تابعة لما توصلت إليه الدولة “الإسرائيلية” من اتفاق مع موسكو على حدود التواجد الإيراني في سوريا ولبنان أيضاً، فإيران وبعد ضربات متوالية من الجيش “الإسرائيلي” على قواعدها في سوريا خضعت للشروط “الإسرائيلية”، ونقلت مواقع تصنيع صواريخها من سوريا إلى لبنان، وهي في حالة اضطراب في لبنان أيضاً، وتحاول الدولة الإيرانية منع أي تبرير لهجوم عليها في لبنان أو في سوريا كذلك، وهذا يعني أن القوة “الإسرائيلية” العسكرية أثبتت قدرتها على حسم التهديد الإيراني في سوريا، من دون الحاجة إلى القوات الأمريكية، أو أن إيران تدرك خسارتها الكبيرة إذا افتعلت صراعاً مع الدولة “الإسرائيلية”.

 

أما بالنسبة لتركيا، فلا شك أن لها دوراً كبيراً في دفع أمريكا لاتخاذ هذا القرار العسكري المهم، فالرئيس التركي أردوغان أعلن قبل أيام قليلة عن قرب التحرك العسكري نحو منبج وشرق الفرات أولاً، ثم أعلن أردوغان أن الرئيس الأمريكي ترامب على علم وتوافق بالتدخل التركي في شرق الفرات ثانياً، وهذا يعني أن هناك توافقاً تركياً أمريكياً حول العملية العسكرية التركية المقبلة، وهو ما أكده مسؤول أمريكي بعد صدور قرار ترامب بالانسحاب، بأن الخطوة الأمريكية جاءت بعد اتصال هاتفي الأسبوع الماضي بين ترامب والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عقب إعلان عملية تركية مرتقبة ضد تنظيم “ي ب ك / بي كا كا” الإرهابي في المناطق الواقعة شرق نهر الفرات. هذا القرار بالانسحاب الأمريكي قد يعني أن أمريكا ستطالب تركيا بتأجيل العملية العسكرية لحين اتمام الانسحاب الأمريكي أولاً، فالوجود العسكري الأمريكي يتمركز في مناطق واسعة في شمال شرق سوريا في الحسكة والرقة ودور الزور وغيرها، ولها فيها قواعد عسكرية قادرة على استقبال طائرات حربية أمريكية في عين دادات في منبج وصرين شمال عين العرب، وفي الرقة والحسكة والطبقة والتنف وغيرها، وبحسب المصادر الأمريكية فهناك ألفي جندي أمريكي في سوريا، أي أن الانسحاب سوف يستغرق وقتاً، وفي حالة إتمامه ولو بشكل جزئي فإن الأرجح أن يكون قد تم في حالة مراجعة أمريكية شاملة لعلاقاتها مع تركيا أولاً، وليس بشأن التواجد العسكري الأمريكي في سوريا فقط، فالخارجية الأمريكية أبلغت الكونغرس الأمريكي قبل أيام قليلة بأنها وافقت على بيع منظومة الدفاع الجوي من صواريخ باتريوت إلى تركيا، وأن هناك نوايا لدى الرئيس الأمريكي ترامب بتسليم زعيم انقلاب 15 يوليو/تموز 2016 فتح الله جولن إلى تركيا، إضافة إلى الحديث عن تفاهمات تركية أمريكية لتسليم تركيا طائرة أف35 الحديثة، فهذا يعني أن تركيا قد رتبت أوراقها مع أمريكا، وأنها أصبحت الآن تجني ثمار صبرها على التعنت الأمريكي بالانسحاب من منبج وشرق الفرات، بعد أن تأكد لأمريكا القضاء على “داعش” في هذه المناطق أولاً، وعدم حاجتها الحقيقية للتنظيمات المحاربة لـ”داعش” فيها، والتي تلقت من أمريكا الكثير من التدريب والدعم العسكري، وكلها من توابع حزب العمال الكردستاني، التي ترفض تركيا هيمنته على شمال سوريا، سواء كان باسم تنظيم عسكري قوي، أو باسم دولة أو كيان سياسي تابع لأمريكا أو غيرها.

 

إن القراءة الأولى لقرار الانسحاب الأمريكي من سوريا تشير إلى تمييز السياسة التركية في التعامل مع المشكلة السورية في حالتين:

 

الأولى: وهي قضية ثورة الشعب السوري من دون أن تؤثر على الأمن القومي التركي، وذلك بدعم حقوق الشعب السوري في التغيير والإصلاح والديمقراطية من دون تدخل في شؤونها الداخلية ولا أراضيها الوطنية، وبقي ذلك لخمس سنوات تقريباً.

 

الثانية: التعامل مع المشكلة السورية، وهي تشكل تهديداً للأمن القومي التركي، بغض النظر عن الجهة الداعمة لخطر حزب العمال الكردستاني على الشعب التركي، سواء كانت الجهة الداعمة إيران أو روسيا أو أمريكا أو غيرها، فالإصرار التركي على الدخول إلى الأراضي السورية عسكرياً لم يتعلق بالمرحلة الأولى، وهي ثورة سورية شعبية خالصة، وإنما تعلق بالمرحلة الثانية وهي تهديد للأمن القومي التركي، فكان قرار التحرك العسكري في درع الفرات وغصن الزيتون وما بعدها قراراً تركياً مصيراً، لا تملك أمريكا أن تتجاهله، وهي الحليف الأول لتركيا ثنائياً وفي الناتو، واضطرت على إثره ترك أرض المعركة لتصبح شأناً إقليماً وليس أمريكياً، آخذين بعين الاعتبار أن أمريكا زودت قوات سوريا الديمقراطية بذخائر وأسلحة تكفي لحرب أشهر أو أكثر، وهذا ما يحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية أكبر من الانسحاب، وهي منع الحرب بين حلفائها، فمصداقية تفهم أمريكا للأمن القومي التركي ومخاطرة المقبلة من سوريا والعراق يفرض عليها أن لا تضع جيشها ولا قوات حلفائها في مواجهة الجيش التركي، وإلا فإن انسحابها سيعني التخلي عن المشاركة في المعركة فقط، وليس حماية الأمن القومي لحليف استراتيجي لها.

 

كاتب تركي

 

القدس العربي

إخوان سورية

أضف تعليقاً