حسين عبد العزيز
قبلت الأمم المتحدة حضور “مؤتمر الحوار الوطني السوري” في سوتشي مطلع العام الجاري، في مقابل موافقة روسيا على ثلاثة شروط: أن يعقد المؤتمر لمرة واحدة، وأن يتضمن البيان الختامي الموافقة على البنود الاثني عشر للمبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، وثالثاً أن تكون صلاحيات اختيار أعضاء اللجنة الدستورية ومعاييرها عبر العملية التي تقودها الأمم المتحدة في جنيف.
بطبيعة الحال، لم تكن موسكو آنذاك في وارد رفض هذه المطالب، لأن رفضها سيؤدي إلى انهيار المؤتمر، وبالتالي انهيار جهودها السياسية وضعضعة مكانتها فاعلاً رئيساً في الملف السوري.
قبلت روسيا هذه المطالب على أمل أن تقوم لاحقاً بتفريغها من محتواها، بحيث تكون اللجنة الدستورية أداة بين النظام السوري، لإجراء التعديلات الشكلية على دستور 2012. ولهذا السبب، لا تبدو موسكو مستعجلة على إعادة إطلاق مسار جنيف، وتفعيل عمل اللجنة الدستورية قبيل إكمال ترتيباتها الميدانية، خصوصاً في إدلب، ذلك أن إزاحة ملف إدلب من الصراع، سواء بعملية عسكرية أو بترك المنطقة للنفوذ التركي، ستحقق لموسكو مكاسب سياسية، ستستثمرها في اللجنة الدستورية. ومن هنا، يمكن فهم التباطؤ الروسي الذي عبر عنه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، “لا نرى أي سبب لاستعجال هذه العملية، وطرح مواعيد مصطنعة لبدء العمل.. المهم هنا هو الجودة”.
إنها رسالة واضحة إلى المجموعة المصغرة التي طلبت من دي ميستورا في نيويورك التسريع بتشكيل اللجنة الدستورية حتى نهاية الشهر الحالي. وليس معروفاً إلى الآن كيف ستحسم الأمور في ضوء التناقض الروسي – الأميركي من جهة وغموض الموقف التركي وموقف دي ميستورا، (استقال من مهمته ويغادرها في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل) من جهة ثانية.
أما عن طبيعة الخلافات، فهي أولاً خلافات حول الهيمنة على الحصة الثالثة (المجتمع المدني والمستقلين من اللجنة الدستورية)، ففي حين يعطي البيان الختامي المبعوث الأممي أحقية اختيار هذه الفئة، يرفض النظام ومعه روسيا ذلك، ويعملان على إدخال عناصر “مستقلة” من التي شاركت في مؤتمر سوتشي المقربة من دمشق. أما المعارضة، فتطالب بأن يتم اختيار هذه الفئة أو جزء منها بالتفاهم معها، بحيث تكون هذه الفئة ممثلاً حقيقياً للمستقلين. وهناك مسألة تمثيل الأكراد، ففي حين تعمل موسكو على تعزيز وجودهم عبر بوابة المستقلين، ترفض أنقرة ذلك جملة وتفصيلاً، وتركّز على التمثيل الكردي في قائمة المعارضة.
وثانياً هي خلافات حول حصة المعارضة، إذ تعمل موسكو على التدخل في قائمة المعارضة من خلال منصة موسكو، وإلى حد ما، من خلال منصة القاهرة، وهي خطوة ترفضها تركيا التي تعتبر نفسها الممثل الفعلي للمعارضة، وهي لوحدها لها أحقية اختيار القائمة.
وثالثاً، مرجعية اللجنة، ففي حين أكد بيان سوتشي المرجعية الأممية للجنة، تعمل دمشق وموسكو على الالتفاف على هذه النقطة، مثلما فعلتا بشأن قرارات دولية كثيرة، خصوصاً القرار 2254 الذي يشكل المرجعية الأممية القانونية للحل في سورية.
ورابعاً، هي خلافات حول التصويت، حيث يطالب النظام باعتماد الإجماع آلية للتصويت، في حين تطالب المعارضة التصويت بالغالبية المطلقة.
وخامساً، لا تزال مهام اللجنة مجهولة، وفق تفسيرين مختلفين بين النظام والمعارضة، وداعمي كل طرف، ففي وقتٍ أكد رئيس وفد النظام إلى مفاوضات جنيف، بشار الجعفري، أن اللجنة ستعمل على إجراء إصلاحات على دستور 2012، تؤكد المعارضة أن مهام اللجنة كتابة دستور جديد، أو اعتماد دستور عام 1950 مع تعديله. وفي محاولة لتمييع المسألة، أعلن وزير خارجية النظام أن هدف اللجنة الوصول إلى الدستور المقبل.
وسادساً، شكل الدولة المقبل بين خيار الإدارات المحلية التي تسعى الحكومة إلى اعتمادها وفق المرسوم التشريعي 107 لعام 2011 والقرار 108 لعام 2018، وبين اللامركزية الإدارية الموسعة التي تتبناها المعارضة، وبين الإدارات الذاتية التي يريدها “مجلس سورية الديمقراطي”.
وسابعاً، خلافات حول اعتماد شكل نظام الحكم (رئاسي أم برلماني): دمشق تؤيد النظام الرئاسي، لأن رئيس الدولة يمارس السلطة التنفيذية، ويسيّر السياسة الخارجية، ويكون القائد العام للجيش والقوات المسلحة.
ترفض المعارضة النظام الرئاسي، لأنه يعطي الرئيس صلاحياتٍ واسعة، ولا يسمح بفصل حيوي للسلطات، وغالباً ما تجنح الأنظمة الرئاسية القائمة، بعد احتراب أهلي إلى إعادة إنتاج الحكم الشمولي، عبر صناديق الاقتراع. وعليه، تدعم المعارضة النظام البرلماني كونه يسمح بتشكيل حكومة توافقية ـ ائتلافية، تضم جميع القوى أو معظمها.
هذه الخلافات حول الدستور واللجنة الدستورية لا يمكن فصلها عن خلافات أعمق، تتعلق بجوهر الحل السياسي بين رؤيتين متعارضتين لا تلتقيان. وتعمل روسيا ومعها النظام على أن يكون تعديل الدستور بمثابة الحل الأمثل للأزمة، مع ما يعنيه ذلك من استبعاد مسألة الانتقال السياسي التي أكّدتها القرارات الدولية ذات الصلة، في حين تعتبر المعارضة أن هذه الخطوة ستقضي على إمكانية التوصل إلى حل سياسي جدي، يؤسّس لنظام ديمقراطي متعدّد.
من وجهة نظر المعارضة، إن الانتقال السياسي يضمن التطبيق الحقيقي للدستور، فالأمر لا يقتصر على مجرد كتابة الدستور، وإنما تطبيقه على أرض الواقع، فما الذي يضمن التزام النظام بتطبيق القانون، وعدم انتهاك الدستور إذا لم يكن ثمة انتقال سياسي حقيقي؟ ولذلك، تصر المعارضة على إجراء مناقشة الدستور مع السلال الأخرى، لا سيما السلة الأولى المعنية بالحكم.
ويخشى أن تؤدي كتابة الدستور والانتقال إلى الانتخابات من دون المرور بمرحلة انتقالية إلى شرعنة النظام، وهو ما لمّح إليه ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، حين قال إن موسكو تضع نصب أعينها الانتخابات الرئاسية المقبلة استحقاقاً تاريخياً يجري على أساس الإصلاح الدستوري المنشود.
أمام هذه المعضلة، قدّمت الأمم المتحدة حلاً نظرياً عبر اعتماد مفهوم الحوكمة في وثيقة دي ميستورا ذات الـ 12 بنداً، لكن ليس معروفاً ما المقصود بهذا المصطلح؛ ففي مرحلةٍ سابقة كانت الحوكمة GOVERNANCE تعني الحكومة GOVERNMENT. وفي المرحلة الحالية يستخدم الغرب هذا المصطلح، للإشارة إلى إنتاج النتائج الجماعية التي لا تقع تحت سيطرة السلطة المركزية، وهذا فهم ينتمي إلى ما بعد الحداثة السياسية، كما هو مطبق في الغرب.
وإذا ما ابتعدنا عن هذه التصنيفات الأكاديمية، واعتمدنا لغة السياسة البسيطة، تعني الحوكمة، الحكم الرشيد الذي يعكس مصالح الجميع، ويحقق الأهداف المتفق عليها من كل الفرقاء السياسيين.
العربي الجديد