غازي دحمان
ثمة مفارقة لا تخطئها العين في سورية وتكاد تتحول إلى معادلة ثابتة وحاكمة، وهي أنه كلما تطورت الأوضاع وزادت تشابكاً وتعقيداً، استطاعت الأطراف المنخرطة في الصراع، الإقليمية والدولية، الخروج من الأزمة، ولكن بترتيبات جديدة، ما يعني أن احتمال حصول صدام بين هذه الأطراف بات أمراً غير وارد، لا الآن ولا في المستقبل، وأن سورية تجاوزت مرحلة التحوّل إلى ساحة حرب بين هذه الأطراف.
شهدنا في الأيام الأخيرة، حدثان، كان من المفترض أن يشكلا الشرارة لحرب مدمرة في سورية، أو على الأقل تجهيز مسرح الحرب وخلق حالة عالية من التوتر والإستنفار، فالحشود المتقابلة في إدلب بين تركيا وروسيا، وما تبعها من حشد غربي على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، في ظل الحديث عن اجتياح إدلب والتبعات التي يمكن أن يستجرها هذا الحدث على الأمن العالمي، وخاصة لجهة احتمالية نزوح أعداد كبيرة، قدرتها الأمم المتحدة بـ 800 ألف وإمكانية وصولهم إلى أوروبا التي تئن تحت تداعيات موجات اللجوء وتأثيراتها السياسية، نتيجة ظهور الأحزاب اليمينية ووصولها إلى السلطة مستغلة غضب الناخبين من هؤلاء الذين جاءوا يقاسمونهم ثرواتهم ويشوهون منظومتهم القيمية.
الحدث الثاني، تمثل بإسقاط الطائرة الروسية من قبل المضادات الأرضية السورية، على إثر غارة للطيران “الإسرائيلي” على مواقع للنظام في اللاذقية، على ورغم خطورة حدث إسقاط الطائرة الروسية، ومدى حساسية الكرملين تجاه مثل هذا الأمر لما ينطوي عليه من أن كشاف ضعف الفعالية العسكرية الروسية، وهي التي أجرت قبل أيام مناورات عسكرية ضخمة حاولت من خلالها إبراز قوّة روسيا العسكرية لتحذير الغرب من مغبة الإصطدام معها، إلا أن الحدث أيضاً انطوى على مخاطر أبعد، ذلك أن الطائرات “الإسرائيلية” التي نفذت الغارة من البحر دخلت مجال الأسلحة الروسية المضادة، سواء في قاعدة طرطوس أم في مطار حميميم في اللاذقية، ما شكّل اختباراً قاسياً لمنظومة الدفاع الجوي الروسية في سورية.
وقبل ذلك، حصلت حوادث مماثلة بين الأطراف المتدخلة في الأزمة السورية، سواء في دير الزور حيث قتلت القوات الأميركية العشرات من المرتزقة الروس التابعين لشركة «واغنر»، كما قتلت القوات الأميركية أعداداً من ميليشيات عراقية وإيرانية، فضلاً عن الإستهداف “الإسرائيلي” الدائم للأصول العسكرية الإيرانية في سورية، وعلى رغم أن كل حادثة من الحوادث السابقة كانت كفيلة بإشعال الصراع إلا أن الأطراف تجاوزتها وطوت صفحتها بأسرع مما توقعه المراقبون.
لكن، وإثر كل حادث أو تطور، كان يجري إعادة التوازن عبر إجراءات وتفاهمات، بعضها ضمني والبعض الآخر علني، وهذه الإجراءات كانت تعزّز ظروف التساكن والتعايش المستقبلي في سورية بين الخصوم المختلفين، بحيث أنه وإثر كل حادث كان يتم الإتفاق على خطوط التماس والخطوط الحمراء، وفي نفس الوقت كانت الأطراف تثبت مواقعها خلف خطوط التماس تلك على اعتبارها حقوق لا خلاف عليها، ففي الوقت الذي أصرت أميركا و”إسرائيل” على إخراج إيران من جنوب سورية، لم يهتم أي منهما بتعزيزاتها في حلب وحمص وأغلب الداخل السوري، ولا بنشاطها التشييعي في مناطق سورية، أما المطالبات العلنية في إخراج النفوذ الإيراني من سورية، فهي ليست أكثر من مطالبات نظرية طالما أن واشنطن وتل أبيب ليستا على إستعداد لتأمين الموارد والأدوات اللازمة لهذه العملية.
استطاعت أطراف الصراع السوري، الإقليمية والدولية، عبر هذه التكتيكات تجاوز احتمالية الصدام بينها، وتفكيك العقد التي تواجه انتشارها ومساحات عملها في الساحة السورية، وكذلك المناورة أمام الرأي العام الداخلي في بلدانها، حيث تظهر على الدوام بمظهر الرابح على المستوى الإستراتيجي، وإظهار أن الخسائر مهما كان نوعها وحجمها تبقى أثمان مقبولة وسط الصراع الجيوسياسي المحتدم في سورية.
لكن هذه السياسات بالمقابل رتّبت أوضاع جديدة تمس مستقبل سورية، أهمها أن موضوع الإعمار لن يتم الوصول إلى اتفاق في شأنه، ذلك أن مختلف الترتيبات التي أجرتها الأطراف تكرس مناطق نفوذ محدّدة لكل طرف منها، وحصر هذه الإجراءات في الجوانب العسكرية، بما يعنيه من منشأت بهذا الخصوص وتموضع للأصول والعتاد، ورغم حالة التعايش المشار إليها بين هذه الأطراف، إلا أن جميعها لديها رغبة في تقويض هيمنة الطرف الآخر وإظهاره بمظهر الفاشل، ما يعني أن الإتفاق على إعادة الإعمار يصعب التوصل إليه في ظل هذه المعطيات.
الأمر الآخر، تكريس مناطق النفوذ في سورية إلى أجل غير محدود، بما يهدد بإحتمالية حصول تقسيم البلاد نهائياً، وهو ما أشار له الإتفاق بين روسيا وتركيا في سوتشي، فهذا الإتفاق تأسس على أساس احتفاظ كل طرف بمناطق سيطرته، مع احتمال حصول تبادلات أرضية، من دون أي إشارة مستقبلية إلى حلول نهائية، مع التركيز على إلغاء أدوار الأطراف المحلية وتحويلها إلى قوّة حارسة لمناطق نفوذ الأطراف الخارجية، تركيا وروسيا.
حتى حروب الوكلاء في سورية يبدو أنها حطت برحالها ووصلت إلى الخاتمة، وأغلب الظن أن الصراع في سورية، في المرحلة المقبلة لن يتجاوز حالة المناوشات المتفرقة هنا وهناك، لكن إخراج سورية من أزمتها لا يبدو أنه احتمال ممكن في المدى القريب، ذلك أن تكتيكات تفكيك العقد التي اتبعتها الأطراف وحالت دون حصول نزاعات كبرى بينها في سورية، أنتجت واقعاً تفكيكياً يصعب حله في وقت قريب.
* كاتب سوري
الحياة اللندنية