د. سمير صالحة
“الروليت الروسية” التي يلعبها الأتراك والأميركان في شمال شرق سوريا عملية انتحارية مكلفة. الأوراق في الجانبين باتت تلعب على المكشوف أمام الطاولة ولم يعد هناك من حاجة للمناورة ومحاولة الالتفاف أو “البلف” بعد هذه الساعة، وارتداداتها ستكون موجعة على الطرفين وحلفائهما إذا لم يتم تداركها عاجلاً.
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن عملية عسكرية تركية جديدة ستتم خلال الأيام القليلة المقبلة في شرق الفرات ضد مواقع قوات سوريا الديمقراطية. واشنطن متمسكة بمواقفها على لسان وزارة الدفاع الأمريكية التي حذرت تركيا من أي هجوم قد تشنه ضد حلفائها الأكراد شمال سوريا وما قاله السفير الأميركي الخاص للمنطقة، جيمس جيفري، بأن الحضور العسكري الأميركي سوف يستمر، وأن من المحتمل أن تطبق واشنطن في شرق الفرات ما طبقته من قبل في شمال العراق، بما يعني تدابير أمنية وعسكرية بينها إعلان المنطقة بقعة حظر جوي والتدخل العسكري المباشر للدفاع عن حلفائها عند الضرورة.
التحرك العسكري التركي الجديد باتجاه الحدود الجنوبية رسالة واضحة للولايات المتحدة الأميركية قبل أن تكون لحلفائها الأكراد أنها لن تقبل بالمشروع الأميركي في شمال شرق سوريا المتعدد الجوانب:
إبقاء ثلث الأراضي السورية الاستراتيجية تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” بغطاء أميركي شامل.
تلاعب واشنطن في ملف منبج وتنفيذ خارطة الطريق المتفق عليها أميركياً وتركياً لكنها تتقدم بشكل بطيء بهدف الضغط على أنقرة في ملفات سورية أخرى.
إصرار واشنطن على عدم الفصل بين “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي و “حزب العمال الكردستاني” الذي تعتبره تركيا والعديد من العواصم تنظيماً إرهابياً.
إقامة مراكز مراقبة على حدود سوريا تحت ذريعة الفصل بين القوات ولمنع أي احتكاك بين الجيش التركي و”وحدات حماية الشعب”.
مواصلة واشنطن لتسليح “وحدات حماية الشعب ” وتجهيزها لتكون نواة الجيش الجديد المؤلف من حوالي 40 ألف عنصر محلي يأتمرون بالقرار الأميركي.
وتلويح أميركي بإنشاء منطقة حظر جوي لعرقلة أي تحرك تركي في المرحلة المقبلة.
هدف العمليات التركية بات معروفاً، في العلن هو “وحدات حماية الشعب” الكردية المحسوبة على حزب “الاتحاد الديمقراطي” الكردي والمجموعات التي تساندهما تحت عنوان الحرب على التنظيمات الإرهابية في المناطق الحدودية التركية السورية. أما في العلن أيضاً فالهدف هو قطع الطريق على المشروع الأميركي باتجاه تجهيز وإعداد جيش كردي نظامي قوامه 30 ألف عنصر يلعب أكثر من دور ويقوم بأكثر من مهمة في المرحلة الأمنية والسياسية القادمة في سوريا والمنطقة.
الروس والإيرانيون يعرضون الخدمات في إطار صفقة يكون النظام في دمشق الرابح الأول فيها. مواقف التحالف الدولي غير واضحة بعد. لكن من يدفع الثمن قبل غيره هم اللاعبون المحليون في سوريا وسكان المنطقة وأهلها المسالمون.
اتهامات رئيس هيئة الأركان الروسية، الجنرال فاليري غيراسيموف للولايات المتحدة بالمراهنة على الأكراد السوريين لإنشاء كيان شبيه بدولة، مستقل عن دمشق شمال البلاد، يقوي الموقف التركي ويشجع على نقل المواجهات شرقاً.
لكن واشنطن لم يعد يهمها كثيراً إقناع أنقرة بما تفعله في شمال سوريا وشرقها بقدر ما يهمها -كما جاء على لسان الناطق باسم البنتاغون سين روبيرتسون- أن القيام بعمليات عسكرية في مناطق يوجد فيها أميركيون أمر مقلق، “ونحن نعتبر مثل هذا العمل غير مقبول ” .
أميركا متمسكة بترسيخ حضورها في شمال شرق سوريا وتحويلها إلى منطقة نفوذ دائم لها حيث الورقة الكردية وموارد الطاقة والأراضي الزراعية والحدود السورية العراقية والسورية التركية. وهي تدرك أن موسكو يهمها أكثر من أنقرة إخراج القوات الأميركية من هناك ودفع حصان طروادتها قوات النظام للتمدد والانتشار العسكري كبديل يرضي الجميع ويمنع الكارثة.
واشنطن دخلت في الأشهر الأخيرة في جملة صفقات سياسية محلية وإقليمية بهدف البقاء في شرق سوريا وشمالها وهي اليوم تناور باسم هذا التحالف الذي يجمع لاعبين أكراد وبعض العواصم العربية والأوروبية في مثلث تحرك استراتيجي هام يجمع سوريا والعراق وإيران فهل من المعقول أن تتخلى عنه ؟
ومع أن واشنطن لا تهتم كثيراً باتجاه توضيح ما تفعله في شمال سوريا وشرقها سوى القول إن تحركها يرتبط مباشرة بتعطيل المشروع الإيراني في سوريا. فإن أنقرة تعرف جيداً أن بين أهداف واشنطن التي تتذرع بإيران اليوم، توفير الحماية لحلفائها الأكراد لعرقلة الخطط والنفوذ التركي في المنطقة غداً.
الأصوات التي تردد من الجانب الكردي السوري أن تركيا ستسقط في مصيدة شمال شرق سوريا لأن واشنطن لن تفرط بمصالحها هناك، تعكس حقيقة حجم التقارب والتنسيق الأميركي الكردي الذي لا خيار آخر أمامه بعد الآن حتى ولو كان الثمن تفريط واشنطن بحليف إقليمي وشريك أساسي تحت سقف حلف شمال الاطلسي .
عملية عسكرية تركية في شرق الفرات، لن تكون سهلة إذا وهي ستختلف شكلاً ومضموناً عن عمليتي “غصن الزيتون ” و”درع الفرات”، حيث يراد للنهر هذه المرة أن يكون الخط الفاصل بين بقعتين جغرافيتين ويراد له لاحقاً أن يكون الخط الحدودي بين كيانين سوريين مستقلين. أنقرة في مواجهة من هذا النوع تعتبر أنها ستقطع الطريق على مشروع بناء جيش حدودي شمالي يذكر بجيش سعد لحد “الإسرائيلي” في جنوب لبنان ويفصل بين الأراضي التركية والسورية بكيان كردي مستقل يتحكم بالطرفين.
المواجهة حتمية إذ ليس بقرار أميركي أو تركي فقط بل بسبب المواقف المحلية والإقليمية التي وصلت إلى طريق مسدود حتى الآن. احتمال مهم لمنع الانفجار هو طاولة أميركية روسية عاجلة لبحث مسار الملف السوري بأكمله فهل يكون ذلك؟
احتمال آخر ضعيف وهو أنه إذا ما كان المواطن السوري لا يريد أن يقتل مواطناً سورياً آخر بعد الآن ويريد حقاً التخلص من الحماية الإقليمية التي اختارها لتكون ضامناً في إيصاله إلى ما يريد، فعليه ربما الرجوع بأسرع ما يكون للبحث عن مصلحة سوريا وأين تكمن وما هي سبل استرداد القرار وربما استعدادات معركة شرق الفرات قد تكون الفرصة الأخيرة في هذا الاتجاه.
تلفزيون سوريا