د. أحمد موفق زيدان
بنقرة على موقع «تويتر» فاجأ الرئيس الأميركي دونالد ترمب أقرب مساعديه ومستشاريه، فضلاً عن حلفائه الدوليين، من أمثال بريطانيا وفرنسا، ومن قبلهم حلفاءه المحليين من العصابات الكردية، بإعلانه سحب كامل قواته الموجودة في المناطق الشرقية السورية، والبالغ عددها ألفي مقاتل، تقوم بمقاتلة تنظيم الدولة ومساعدة العصابات الكردية العاملة هناك أيضاً، مثل هذا القرار خلق وسيخلق فراغاً جيو استراتيجي لا يمكن أن يتنبأ أحد بحجمه ولا بتداعياته ولا بارتداداته، ولذا فقد ردّ عليه وزير دفاعه جيمس ماتيس بالاستقالة المباشرة، احتجاجاً على هذا القرار الذي خالف كل النصائح السياسية والاستراتيجية، وضرب بعرض الحائط بها، وبتصريحات مناقضة لها أحرجت أصحابها من أمثال وزير الخارجية، ووزير الدفاع، ومستشار الأمن القومي، لكن للتذكير فإن مثل هذه الاستقالة لم تحصل في تاريخ السياسة الأميركية منذ عام 1980 يوم استقال وزير الخارجية آنذاك سايروس فانس، احتجاجاً على تعامل رئيسه جيمي كارتر مع قضية احتجاز الرهائن الأميركيين من قبل ثورة الخميني.
الفراغ الذي حصل بإعلان واشنطن الانسحاب من المناطق الشرقية السورية، وتعهد الرئيس ترمب بعدم المشاركة بالضربات الجوية على تنظيم الدولة، وترك مسؤولية الأمر إلى دول مثل روسيا وإيران، يشير إلى رغبة أميركية بخلط الأوراق في سوريا بين لاعبين دوليين وإقليميين متشاكسين، وبالتالي سيتحتم على هؤلاء اللاعبين ترتيب أوراقهم على عجل، ولعل هذا ما يفسر هرع الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى أنقرة، ولقائه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خصوصاً أن تفاصيل الانسحاب مجهولة بالنسبة للكثيرين، ولعل السلوك التركي المقبل هو الذي سيحدد حجم الفراغ وتداعياته وارتداداته، فهل كان هذا الانسحاب بعلم مسبق تركي، خصوصاً أن التصريحات التركية المسبقة الواثقة من تحركهم ضد العصابات الكردية وتعاون واشنطن معها في هذا السياق أشار إلى أن ثمة تنسيق تركي- أميركي في هذا الصدد.
لعل أفضل السيناريوهات للثورة السورية هو وجود تنسيق أميركي- تركي بحيث يقوم الأخير بملء الفراغ الأميركي في المناطق الشرقية، من خلال خلق كتلة سنية عربية مع قوى كردية معتدلة تملأ الفراغ الكبير، وحرمان المعسكر المعادي الآخر، من استغلال وملء الفراغ الحاصل، أما إن كان الانسحاب دون هذا الترتيب، فهذا يعني أن الفوضى ستكون سيدة الموقف في المنطقة، وهو ما قد يلقي بتداعياته على أمن المناطق الثورية التي ترعاها القوات التركية، بالإضافة إلى تداعياته الأمنية على الأراضي التركية لاحقاً.
على صفوف الثورة السورية السعي إلى قراءة الموقف بشكل صحيح ودقيق، والعمل على رصّ صفوفها بشكل قوي ومتين، فلو كانت هذه القوى الثورية صفاً واحداً أو على الأقل تنسّق فيما بينها اليوم، لكانت استفادت كثيراً من هذه الخطوة الأميركية، وبالتالي فإن الفراغ الذي سيخلفه رحيل هذه القوات من المناطق الشرقية السورية يعني أن خزان النفط والغاز الموجود بها سيكون في متناول يديها، إن كانت على قدر المسؤولية، وهو ما سيخفف عنها بالتالي كل الأعباء المالية التي تعاني منها ولا تزال منذ بداية الثورة، وهنا نستطيع القول إن الكرة اليوم في ملعب القوى الثورية من المنطقة الشرقية والعشائر السورية فيها لتقوم بدورها بملء هذا الفراغ، الذي سيعيد ربما مئات الآلاف من المشردين والمهجرين الذين تم تهجيرهم بفعل غارات التحالف الدولي. حجم التآمر العالمي على هذه الرقعة الصغيرة من العالم، والممثلة بسوريا، يعكس أهمية هذه المنطقة، وهو للأسف ما يجهله أصحاب القضية نفسها، وإلّا فلم يتعاملون مع بعضهم بهذه الطريقة وبهذه السذاجة، فهل يعقل أن يخفّ كل قادة العالم إلى الشرق والغرب من أجل اللقاءات والبحث في القضية السورية وأبعادها، ويغيب عنها أصحابها وثوارها، ويرفضون أن يلتقوا مع بعضهم، فهل ما يجمع هؤلاء أكثر مما يجمع قادة الثورة وفصائلها، ولكنه بُعد النظر والفهم العميق للقضية، ولو كان لهذه الفصائل بُعد النظر والفهم العميق للقضية وأبعادها وتداعياتها، لما تعاملوا مع بعضهم بهذه السذاجة والسياسة الطفولية، ولعل أولى الأولويات وأسبق الأسبقيات تقديم جسم سياسي يمثل الجسم العسكري الحقيقي في الداخل يفاوض ويعاهد، تماماً كما يحصل مع حركة طالبان الأفغانية، ولذاك حديث آخر.