حسن أبو هنية
أفضت سلسلة من التطورات الميدانية والسياسية إلى خراب الثورة السورية؛ تُوجت بفقدان قوات المعارضة معظم مناطق سيطرتها المكانية، وانكماشها جغرافياً على مساحات محاصرة في محافظة إدلب وما يتصل بها من أرياف اللاذقية وحماة وحلب، واكتملت بتخلي معظم مكونات منظومة “أصدقاء سوريا” عن المعارضة لتنحسر منظومة الأصدقاء في تركيا. وبهذا باتت خيوط اللعبة في سوريا تنتظر وضع اللمسات الأخيرة على يد من تبقى من اللاعبين الدوليين والإقليميين المكون من فريق “أستانة” الثلاثي؛ الروسي والتركي والإيراني.
مع نهاية سباق اللاعبين، عقد مؤتمر “أستانة 10″، أو “سوتشي 2″، يومي 30 و31 تموز/ يوليو 2018. وبصرف النظر عن التسمية المحيرة بدمج المسارين واختلال الجغرافيا، فقد عقد أستانة الكازاخي في سوتشي الروسية، في دلالة على متانة الخيوط الروسية. وقد خرج البيان الختامي كالعادة بعبارات تنتمي إلى قاموس الرطانة البلاغية المعهودة بالتأكيد على حفظ سيادة سوريا واستقلالها ووحدة أراضيها، والاستمرار في “حرب الإرهاب”، والمضي في بحث ملفات المعتقلين واللاجئين ومسألة الدستور.
وقد دشن مسار أستانة الذي انعقد برعاية روسية تركية إيرانية منذ الجولة الأولى في 23 كانون الثاني/ يناير 2017، بعد خسارة جيب حلب لصالح النظام، ديناميكية ترتكز على ترتيب روسيا للأوضاع الميدانية، عبر ابتداع مصطلح خفض التصعيد الذي يقوم على تكتيكات “العزل والقضم”، وانتهت مسارات أستانة بحصار المعارضة المسلحة في محافظة إدلب وما يتصل بها من أرياف اللاذقية وحماة وحلب، وهي المناطق المحاذية لتركيا التي أصبحت تتولى ملف المعارضة السورية السياسية والعسكرية، وتتحكم في إدارة فصائل المعارضة المسلحة والائتلاف السياسي، للحصول على صفقة تضمن مصالح تركيا وأمنها، دون أن تتصادم مع روسيا.
لم تنجح محادثات “أستانة 10” بالتوصل إلى حل توافقي نهائي بين تركيا وروسيا حول التعامل مع عقدة إدلب، فقد استبق الرئيس السوري بشار الأسد المحادثات بتصريحات مثيرة في 26 تموز/ يوليو 2018، خلال مقابلة مع وسائل إعلام روسية، بالإعلان أن “هدف الجيش السوري حالياً محافظة إدلب”، وذلك بعد الانتهاء من السيطرة على جنوب سوريا. وحسب الأسد، فإن بعض مقاتلي الجنوب ممن رفضوا “المصالحات” غادر إلى إدلب، حيث يمكنهم العيش مع إخوانهم الإرهابيين. الآن في إدلب، عشرات الآلاف من الإرهابيين”، الأمر الذي ظهر جلياً مع تصريحات رئيس وفد النظام السوري إلى سوتشي – “أستانة 10″، حيث هدد بشار الجعفري بعملية عسكرية لاستعادة محافظة إدلب التي تسيطر على معظمها المعارضة المسلحة. وقال الجعفري: “إذا عادت مدينة إدلب بالمصالحات الوطنية فهذا ما تريده الحكومة السورية، وإذا لم تعد فإن للجيش السوري الحق باستعادتها بالقوة”. ووصف وجود القوات التركية في الشمال السوري بالاحتلال، وتوعد بطردها.
لا جدال في أن “أستانة 10” لم تتوصل لاتفاق نهائي، لكنها توصلت إلى شبه اتفاق بين تركيا وروسيا وإيران كدول ضامنة لمفاوضات أستانا على تمديد العمل باتفاق خفض التصعيد في إدلب لمدة ستة أشهر، ولذلك أكد رئيس الوفد الروسي ألكسندر لافرينتييف، في ختام اجتماع “أستانة 10” في 31 تموز/ يوليو 2018، أنه ليس ثمة حديث في الوقت الحاضر عن هجوم عسكري واسع النطاق ضد المسلحين في محافظة إدلب السورية، لكنه أكد في نفس الوقت على إصرار موسكو على ضرورة قطع دابر المجموعات الإرهابية في هذه المنطقة، وفي مقدمتها “جبهة النصرة”. وتابع: “لذا فقد دعونا المعارضة المعتدلة إلى تنسيق أكبر مع الشركاء الأتراك من أجل حل هذه المشكلة”. وصرح لافرينتييف بأن روسيا مستعدة لدعم جهود المعارضة السورية المعتدلة في دحر الإرهابيين في المنطقة إذا احتاجت لذلك، مشيراً إلى الوفد الروسي عرض بشكل صريح دعمها لممثلي المعارضة في سوتشي.
وأشار لافرينتييف إلى أن المشاركين في الاجتماع توصلوا إلى فهم مشترك لكيفية محاربة الإرهاب في سوريا، قائلاً إن الإرهاب لا بد من مكافحته حتى هزيمته التامة، وفي أسرع وقت ممكن.
ثمة توافق بين كافة الأطراف على موضوع “حرب الإرهاب”، حيث تختزل عقدة إدلب بالتنظيمات المصنفة كحركات إرهابية. وعلى الرغم من تنوعها واختلافها، فإنها تصنف كسلالات تتبع تنظيم “القاعدة”، وعنوانها الأبرز “جبهة النصرة” التي تحولت إلى “جبهة فتح الشام” في 28 تموز/ يوليو 2016 يعد إعلان فك الارتباط بتنظيم القاعدة، ثم أعلنت عن اندماجها بــ”هيئة تحرير الشام” في 28 كانون الثاني/ يناير 2017، الذي نشأ عن ائتلاف مع أربعة فصائل وهي: كتائب نور الدين الزنكي، وجبهة أنصار الدين، وجيش السنّة، ولواء الحق، وانضمام مجموعات منشقّة عن أحرار الشام. وقد انسحب الزنكي وبعض أحرار الشام بعد فترة وجيزة، وقد أدرجت الولايات المتحدة الأمريكية “هيئة تحرير الشام” على قائمة المنظمات الإرهابية في 31 أيار/ مايو 2018.
ومن أبرز الفصائل التي تعتبر قاعدية تنظيم “حراس الدين” الذي تشكل في 27 شباط/ فبراير 2018، بعد رفض عدد من قيادات النصرة فك الارتباط بالقاعدة، وهو ائتلاف مكون من عدة فصائل، وهي: حراس الشام، وسرايا الساحل، وسرية كابل، وجند الشريعة، و”جيش الملاحم”، و”جيش البادية”، و”جيش الساحل. وقد أعلن تنظيم “حراس الدين” وفصيل “أنصار التوحيد” المنشق عن “جند الأقصى” في 29 نيسان/ أبريل 2018، اندماجهما في حلف جديد باسم “حلف نصرة الإسلام”، كما يعتبر الحزب الإسلامي التركستاني، وجماعة أنصار الدين، بالإضافة إلى جيش العزة، مكونات قاعدية تنطبق عليها التصنيفات الإرهابوية.
وفي محاولة لفرض واقع جديد للمعارضة السورية المسلحة في محافظة إدلب، أُعلن عن تأسيس “الجبهة الوطنية للتحرير” في 1 آب/ أغسطس 2018، بعد يوم من محادثات “أستانة 10″، والتي سبقها اجتماع بين الجانب التركي وفصائل المعارضة المسلحة في العاصمة التركية. وضم التشكيل الجديد كلا من: “جبهة تحرير سوريا” التي أعلن عن تأسيسها في 18 شباط/ فبراير 2018، بعد اندماج حركتي “أحرار الشام” و”نور الدين زنكي”، و”ألوية صقور الشام”، و”جيش الأحرار”، و”تجمع دمشق”، و”الجبهة الوطنية للتحرير”؛ التي أعلن عن تأسيسها في 28 أيار/ مايو 2018، وتضم 11 فصيلاً؛ وهي “فيلق الشام” و”جيش إدلب الحر” و”الفرقة الساحلية الأولى” و”الفرقة الساحلية الثانية” و”الفرقة الأولى مشاة” و”الجيش الثاني” و”جيش النخبة” و”جيش النصر” و”لواء شهداء الإسلام في داريا” و”لواء الحرية” و”الفرقة 23″. وقالت الفصائل في بيان التأسيس، إن الاندماج يأتي كنواة لـ”جيش الثورة القادم”، ليشكلوا بذلك أكبر كيان عسكري معارض للنظام قوامه قرابة 100 ألف مقاتل.
شغل منصب القائد العام للجبهة الوطنية للتحرير العقيد فضل الله الحجي (من فيلق الشام)، وتسلم رئيس مجلس القيادة المقدم صهيب ليوش، والنائب الأول أحمد مصطفى سرحان (من صقور الشام)، والنائب الثاني وليد هاشم المشيعل (من جيش الأحرار)، فيما تسلم النقيب عناد الدرويش رئاسة الأركان (من فصيل أحرار الشام)، والرائد محمد المنصور نائباً لرئيس الأركان، وتولى النقيب ناجي مصطفى منصب المتحدث الرسمي باسم الجبهة.. وهذه قيادات كانت تصنف ضمن الصف الثاني، حيث غاب عن قيادة الجبهة عدد من قيادات الصف الأول، ومنهم قادة حركة نور الدين الزنكي، الشيخ توفيق شهاب الدين، ونائبه الشيخ حسام الأطرش، ومن أحرار الشام حسن صوفان، وحسام سلامة، ومن صقور الشام، أبو عيسى الشيخ، وغيرهم من القياديين.
وسرعان ما أشادت الحكومة السورية المؤقتة بهذا التشكيل في بيان لها أصدرته في 2 آب/ أغسطس 2018، وجاء فيه: “إن الحكومة السورية المؤقتة ووزارة الدفاع تشيد بمبادرة جمع الفصائل العسكرية وتوحدها ضمن الجبهة الوطنية للتحرير، والتي يقع على عاتقها حماية الناس وتأمين حياتهم واستقرارهم، وذلك باستمرار السعي للوصول للمؤسسة العسكرية المنظمة القادرة على الدفاع عن المدنيين وممتلكاتهم ومؤسسات المجتمع المدني في المناطق المحررة”.
ويتبع للحكومة السورية المؤقتة الجيش الوطني؛ الذي يضم كافة الفصائل العسكرية في مناطق معركتي درع الفرات وغصن الزيتون شمالي حلب، ويُقدَم له الدعم من الجانب التركي.
إن الجبهة الوطنية للتحرير هي نتاج إخفاق اجتماع “ثلاثي أستانا” في سوتشي في حل عقدة إدلب. فبحسب غيفورغ ميرزايان في مقاله بصحيفة “إكسبرت أونلاين” الروسية، رغم أن “تركيا لا تنوي احتلال هذا الجزء من الأراضي السورية إلى أجل غير مسمى، إلا أن أردوغان لا يريد المغادرة مجاناً”، وثمة “حل وسط، حيث اتفقت دمشق وطهران وموسكو على تأجيل الهجوم مؤقتاً على إدلب، والسماح لتركيا نفسها بالتعامل مع التهديدات التي تنبثق من جماعات إرهابية منفصلة في المنطقة”، “إلا أن هذا الحل الوسط، على الأرجح، لن يدوم طويلاً؛ فتركيا في الثلاثي السوري هي الحلقة الأضعف، ويساهم في إضعاف تركيا التدهور الحاد في علاقة أردوغان بالغرب، ما يجعل الرئيس التركي في حالة نصف عزلة، بما لا يتيح له تخريب العلاقة مع موسكو وطهران، ولذلك فمن غير المستبعد، بعد تطهير الجيوب الصحراوية وحشد القوات قرب إدلب، أن يجد الجيش السوري في الخريف ذريعة للهجوم على المحافظة الانفصالية، فتتنحى تركيا جانباً، مكتفية بالحصول على تنازلات غير ذات قيمة”.
لا شك أن سيناريوهات حل عقدة إدلب منفتحة على احتمالات عديدة، لخصها جلال سلمي، من مركز جسور للدراسات، في أربعة سيناريوهات، رجح منها اثنين؛ حيث يُمكن أولاً أن يطبق سيناريو “الأيلولة القبرصية”، من خلال تعويم الفصائل المُسلحة وتحويلها لقوات شرعية تحمي مناطق تواجدها على نحوٍ موالٍ لتركيا، وتحويل مناطق سيطرة المعارضة لمجالس إدارية محلية تجتمع مع حكومة دمشق وتشاركها السلطة؛ تحت قبة “مجلس المناطق” الذي يدور الحديث عن احتمال شمله بالدستور الجديد، وثانياً الانحياز لسيناريو “الشوكات الوظيفية”، حيث تُحوّل تركيا تواجدها المباشر إلى المناطق الحدودية، مع ترك وكلاء داخليين اقتصاديين ومجتمعيين يؤسسون مجالس إدارية تحظى “باعتراف وضمانة” روسية، ويشاركون في السلطة عبر “جمعية المناطق” التي تقرها مسودة الدستور الروسي المُقترحة لتركيا.
خلاصة القول أن الإعلان عن تشكل الجبهة الوطنية للتحرير نتاج الديناميكية المتسارعة للتطورات الميدانية في سوريا، حيث تقلصت سيطرة المعارضة السورية المسلحة في مناطق جغرافية محدودة متاخمة لتركيا في محافظة إدلب، وما يتصل بها من أرياف اللاذقية وحماة وحلب، وباتت رهانات المعارضة السياسية في الحكومة المؤقتة محددة بخيارات تركيا؛ التي بدورها أصبحت محاصرة بضغوطات أمريكية أوروبية، وتحاول عدم المجازفة بخسارة روسيا وإيران، رغم اهتزاز الثقة بهما، الأمر الذي سوف يقود إلى صفقة وسط تحفظ من خلالها تركيا مصالحها القومية الحيوية، وتفضي في النهاية إلى عودة إدلب إلى النظام السوري بأقل الخسائر، لكن ذلك سيفضي في نهاية المطاف إلى تفكك المعارضة السورية المسلحة وأفول الجبهة الوطنية للتحرير بطرائق عدة بعد الصدام مع الحالة الجهادية، حيث نشهد نهاية حقبة السيطرة المكانية، وخاتمة نمط الحروب الكلاسيكية، وإعادة إحياء حرب العصابات، لكنها حرب أطرافها الحركات الجهادية المصنفة كمنظمات إرهابية مع قوات النظام والمليشيات الإيرانية، وهي نتيجة كانت جلية منذ أن تحولت أولويات المعارضة من إسقاط النظام إلى قتال الحركات الجهادية، كل ذلك بدا واضحاً في عصر سيادة مصطلح “الإرهاب” ونهاية حديث “الثورة”.
“عربي21”