مهنا الحبيل
يمثّل اللقاء الحميمي لوزير خارجية البحرين، خالد الخليفة، مع وزير خارجية نظام الأسد، وليد المعلّم، في نيويورك قبل أيام، رسالة العلاقات العامة التي تقوم بأدوارها البحرين لصالح الرياض وأبو ظبي، وموقفها المرتبط بهما أخيراً. ولكن ابتداءً نعيد التذكير بأن القضية السورية كانت تحت التصفية بإجماع إقليمي دولي، سبق المحور الخليجي، وأن اللاعب المركزي فيها اليوم هو روسيا الاتحادية، والخطة القائمة على الأرض، باعتبارها تسوية دبلوماسية، هي في سياق اتفاق سوتشي بين موسكو وأنقرة وطهران.
والجانب الإنساني الذي تُولِيه أنقرة، مقابل مصالحها الاستراتيجية مع موسكو، هو المساحة المتحرّكة هذا اليوم، والتي سيترتب عليها تنظيم تسلم النظام والشرطة العسكرية الروسية إدلب وما تبقى من الشمال السوري، مهما طالت مدة الانتظار، لكن العنصر الفارق هنا ألا يُعرّض الشمال السوري لمزيدٍ من النكبات والاستنزاف الدموي الذي لا يُبالي به الروس، لو اقتضى التمهيد لحسم مشروعهم، بدفعة من المذابح.
هنا تدرك كل دول المنطقة في محور التشدّد الذي جمع الدول الثلاث في الأزمة الخليجية، أو محور التفاهم الذي ضم مسقط والكويت والدوحة لحل الأزمة الخليجية المتفاقمة، عبر الحوارات الدبلوماسية والسياسية الداخلية، أن موسم الثورة السورية انتهى تماماً، وأن الشرق تعاد تشكيلات محاوره الإقليمية. وهنا لسنا نتحدث عن مضمون وروح الثورة التي اختطفت من عمقها المدني والإنساني وكفاحها الديمقراطي، فهي رصيدٌ لا يُمحى، وكيفَ يمحى قدّاس حريةٍ قدم نصف مليون شهيد، ومليوني جريح، وأمة تهيم في الأرض لملجئها الجديد، في أكبر جريمة تاريخية بعد الحرب العالمية، تواطأ عليها الغرب والإقليم معاً، وشارك العرب في أقذر أدواتها، فهذا مسارٌ يتراكم وعيه في مستقبل الإنسان السوري، وهتاف الحرية في ضميره، لكننا اليوم نتحدّث عن الواقع السياسي للصفقة، والواقع الذي تُثبّت معادلته كل يوم على الأرض، ولن تكون للضمير الثوري السوري الحر مساحةٌ فارقة، من دون أن يُدرك هذا الأمر، ويعمل للمستقبل في سياق تمهيدي واستراتيجي مدني، لن يتحقق من دون أرضية مستقلة للعمل السوري الثوري المبعثر، والذي وزّع على قارعة المستثمرين.
إذاً، الحسبة الخليجية اليوم هي في هذا السياق. وبالنسبة إلى محور التفاهم، موقف مسقط في الأصل لا يحتاج أي تغيير، لعلاقتها المتميزة مع طهران، ورفض معادلة الحرب السورية، ولن تحتاج أن تضيف شيئاً إلى الملف، فالتواصل بين مسقط وطهران حيوي، ومتجاوز مواسم الخليج المضطربة. أما الكويت فغالباً هناك ضغط معنوي في التراجع عن الموقف الأخلاقي الذي اتخذته وشعبها في القضية السورية. ولا يوجد في حقيبة الكويت الجديدة، المنشغلة أيضاً بتأمين أمنها القومي بعد الانقسام الخليجي، ضرورة للتطبيع الفوري مع نظام الأسد، وإن كانت عودة العلاقات متوقعة. تبقى الدوحة التي استُخدم الملف السوري ضدها في حرب المحور الخليجي. انسحبت اليوم من الملف، وحتى من التقاطع مع تركيا فيه، فالأخيرة تدير ملفها السوري بحسب المصلحة الأساسية للقومية التركية، ولم يعد لقطر حالياً أي شراكة. وقد أفاد هذا الانسحاب قطر كثيراً، وساعدها في ملفاتٍ عدة للخروج من هذه الاشتباكات المكلفة، فمصلحتها في تحويل دعم الشعوب العربية إلى مسارات إنسانية وإغاثية وسياسية فكرية، تتّحد مع قيم فكر الإحياء الإسلامي ومشروع النهضة العربي، وتخرج كلياً من الاشتباكات الميدانية، غير أن إرث الغضب للتحالف الطائفي في الجبهة الإيرانية، وتوجيه الهجوم عليها تبقى لهما مساحتهما، خصوصاً في الإعلام اللبناني، لكنه لن يتجاوز قواعد اللعبة التي تضبطها إيران، والتي ترى في هذه اللعبة اليوم مساحة مهمة لتجاوز الضغط الأميركي، ومن ذلك فتح أي مساحة تفاهم خليجي ضد التصعيد ومقدمات الحرب مع أي طرف خليجي. وعلى الرغم من اجتماعات 3+6، دول الخليج ومصر والأردن برعاية واشنطن، إلّا أن هذا لا يعني مشاركة وموافقة مطلقة على أي عمل عسكري ضد إيران، خصوصاً مع موقف مسقط الحاسم في هذا الاتجاه.
هنا يتجه الملف في محور التشدّد إلى نوع من المبادرة الأكثر حماساً، لتحقيق اختراق إقليمي له، خصوصاً بعد أزمة حرب اليمن، والكارثة الإنسانية التي يعيشها، وفشل عدة محاولاتٍ في تحقيق تفوق أمام إيران، خصوصاً بعد احتجاز رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، في الرياض، والارتدادات التي تسبب بها على السعودية.
ولا ندري إن كانت هناك مراهنة على إمكانية سحب نظام الأسد من نفوذ طهران، باعتبار أن هذا المحو يرى العلاقة مع المحتل الروسي جيدة، ولا يوجد تحفّظ على نفوذه في الأراضي السورية، وهو ما دندن عليه إعلام المحور، وهو رهان خاطئ آخر ببعديه، فتحييد طهران أصعب من هذه التصورات الساذجة، وعمقها اليوم داخل المنظومة الاجتماعية، والانقسام الطائفي في سورية متداخل ومتجذر. أما فكرة المحور الخليجي في تعويض موسكو مقابل تحييد طهران فهي تقوم على تفاعل عاطفي، لتحقيق أي تعويضٍ خسروه في سورية ولبنان، لكنه لا يصمد على الأرض مطلقاً.
معادلة الروس القديمة، والتي كانت في أوج الأزمة، والإعلان الشهير لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن بلاده تدخل معركتها تحت سياق شرعية نفوذ الأقليات المطلق في سورية، والتي تحتها ذُبحت قيم المواطنة والعروبة والمدنية في ضفتي الحرب، كانا ضمن سياق استراتيجي مصلحي لموسكو، انتهى بها إلى هذا النفوذ، والذي لن يحملها على التضحية بهذه المعادلة، على الرغم من إغراءات النفط الخليجي، خصوصاً أن هذا النفط، وإنْ تسرّب لصالح موسكو، وهي قادرة على استدرار بعضه، غير أنها تدرك أن النفوذ الأميركي في الخليج لا يزال حاضراً، ويكفي أن ترامب يسحب من الرصيد كل مرة، ثم يهدد ويبتز من جديد، فهنا يدرك الروس أن شركاء معادلة السياسة الدموية التي قرّبتهم من مياه الخليج الدافئة لا يزالون هم شركاء اللعبة المستمرة لصالحها، أما مواسم العروض الخليجية فتأخذ حصتها الممكنة، وتترك لهم السياسة الخائبة.
العربي الجديد