محمد زاهد جول
في القمة الأخيرة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والروسي بوتين، طرح بوتين مشروعية التواجد العسكري التركي في سوريا، بناء على اتفاقية «أضنة» الموقعة بين الحكومتين التركية والسورية عام 1998، والمشروعية الأخرى في التواجد العسكري التركي في الشمال السوري هي اتفاقية سوتشي بين تركيا وروسيا حول إدلب الموقعة في سبتمبر 2018، التي سمحت للقوات التركية بالتواجد شمال إدلب، واتخاذ مواقع تنتفع منها القوات الروسية حتى لا تتعرض لأي هجوم، وهذه الاتفاقية وجدت تأييداً ومباركة من الشعب السوري أولاً، وأمريكا والدول الأوروبية ثانياً، ولم تعارضها إيران ولا غيرها من الدول.
اتفاقية سوتشي صورت تركيا حليفاً عسكرياً لروسيا في سوريا، وقد صمد هذا التحالف العسكري لأكثر من خمسة أشهر حتى الآن، وهو مرشحٌ للنجاح أكثر، رغم ما اعتراه من انتهاكات، وقد أثنى الرئيس الروسي بوتين شخصياً على الالتزام التركي بتطبيق الاتفاق وبالتزام حلفاء تركيا به، أي أنه يتمسك بالاتفاقية التي تعطي مشروعية للتواجد العسكري التركي في سوريا، وهذا يعني عجز نظام بشار الأسد من الاعتراض على ذلك الاتفاق في أضنة أولاً، وعجزه عن رفض الاتفاق الثاني بين روسيا وتركيا في سوتشي حول إدلب وغيرها، كما أنه ملزم لإيران باحترام التواجد العسكري التركي في سوريا أيضاً.
التفاهم التركي والروسي شمال سوريا تفاجأ بقرار الرئيس الأمريكي ترامب سحب القوات الأمريكية من سوريا في 13 ديسمبر 2018، وما اتبعه ترامب من تطمينات لحلفائه بخصوص هذا الانسحاب، بأنه على تفاهم وتنسيق مع الرئيس التركي أردوغان، بينما هناك من كان يتوقع زيادة التواجد الأمريكي في سوريا بعد التفاهم الروسي التركي السابق فيها، وهناك من نظر إلى الرغبة الأمريكية بالتفاهم مع الجيش التركي للحلول مكان الجيش الأمريكي على أنه إغراء أمريكي لتركيا للابتعاد عن التنسيق مع روسيا، بل هناك من قال بأن مستشار مجلس الأمن القومي الأمريكي جون بولتون سأل الأتراك في زيارته الأخيرة غير الموفقة لأنقرة، أسئلة مباشرة عن طبيعة الاتفاق التركي الروسي في سوريا، وبالأخص في الجوانب العسكرية. وهذا يؤكد أن أمريكا قلقة من التفاهمات العسكرية الروسية التركية في سوريا، وان أمريكا تفضل أن يكون تعاونها العسكري في سوريا مع الأتراك دون غيرهم، ولكنها تتريث بسبب التعاون التركي الروسي عسكريا في سوريا، والتعاون التركي الإيراني اقتصادياً، في ظل عقوبات أمريكية قاسية ضد إيران وتعارضها تركيا، وفي الوقت نفسه تعارض الحكومة التركية الرؤية الأمريكية في التحالف الأمريكي مع الأحزاب القومية الكردية، التي تصفها الحكومة التركية بالتنظيمات الإرهابية الانفصالية، بينما يرى فيها الرئيس الأمريكي ترامب حليفاً لأمريكا بهزيمة تنظيم «داعش» في سوريا، هذه قضية لم تتوصل الحكومة التركية إلى تفاهم مرض حولها مع الحكومة الأمريكية، وبتعبير أدق مع وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، وقد يكون الأمر بصورة مقاربة مع الكونغرس الأمريكي.
المجتمع الدولي نظر بإيجابية للمواقف التركية العسكرية في سوريا، فقد حقنت دماء مئات الآلاف من أبناء الشعب السوري، من خلال اتفاقية إدلب وغيرها، والآمال معقودة الآن بأن تتحقق في منبج وشرق الفرات، خاصة أن أمريكا أخذت تطرح فكرة المنطقة الآمنة شمال سوريا وشرق الفرات، وفي المناطق التي سوف تنسحب منها القوات الأمريكية، والفارق بين الموقف الأمريكي والتركي من المنطقة الآمنة، إن أمريكا تريد أن تبقي تلك المناطق الآمنة بحماية القوات التي سلحتها، باسم «قوات سوريا الديمقراطية»، ولا تمانع بتواجد قوات عسكرية تركية في المنطقة الآمنة، بشرط عدم الاصطدام العسكري مع «قوات سوريا الديمقراطية»، أي أن أمريكا لا تزال تحاول تغيير وجهة النظر التركية من وجود قوات عسكرية باسم الأحزاب الكردية شمال سوريا أو في المنطقة الآمنة المزعومة، بل تسعى لإيجاد تعاون بين هذه القوات والقوات التركية في هذه المناطق كي تضمن تركيا عدم قيام تلك القوات بعمل عدائي ضدها، بينما ترفض تركيا هذه الفكرة جملة وتفصيلاً، فهي لا تقبل بقوات عسكرية غير قواتها فيها، وتطالب بأن تكون المنطقة الآمنة شمال سوريا وشرق الفرات تحديدا بحماية تركية فقط، بدون أن تمانع بوجود قوات سورية وطنية غير انفصالية، وتفاهم دولي روسي وامريكي لكيفية حماية تلك المنطقة من عدوان من جيش الأسد أو غيره. مؤشرات ذلك ما ذكره وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو، عن تشكيل قوة مهام مشتركة بين أنقرة وواشنطن، بهدف تنسيق انسحاب القوات الأمريكية من الأراضي السورية أولاً، وقد جاء تصريح شاويش أوغلو هذا في العاصمة الأمريكية واشنطن يوم 7 فبراير الجاري، التي يزورها للمشاركة في اجتماع وزراء خارجية الدول الأعضاء في التحالف الدولي لمكافحة تنظيم «داعش» الإرهابي، فالحكومة التركية تتفاوض الآن حول مفهوم المنطقة الآمنة التي اقترحتها أمريكا شمال سوريا، فهي في نظر الحكومة التركية غير واضحة بحسب تصريح تشاويش أوغلو نفسه، لأن تركيا لا تقبل منطقة آمنة بأيدي المليشيات الإرهابية الكردية الانفصالية من وجهة نظر الحكومة التركية، التي لم تغلق الأبواب في التفاوض على التنسيق وتقييم المقترحات المتبادلة للطرفين، من أجل إتمام مرحلة انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، بدون حدوث مشاكل، والوفد التركي سيواصل هذه المفاوضات في واشنطن، والموقف التركي لا يزال يطالب بإخراج إرهابيي «ي ب ك/ بي كا كا» من داخل منبج، هذا المطلب دام أكثر من ثلاث سنوات، والحكومة التركية عندما سمحت لهم بدخول منبج كان مشروطاً في ذلك الوقت مع أمريكا بخروجهم بعد تحريرها من تنظيم «داعش»، وهو ما لم تلتزم به أمريكا بعد تحقيق هذا الشرط.
ونقطة الخلاف التركي الأمريكي هي أن تركيا تفرق بين الأكراد كأبناء قومية لهم حقوقهم الوطنية في سوريا مثلهم مثل باقي أبناء الشعب السوري، ومسلحي المليشيات التي تدعي تمثيل الشعب الكردي ويأخذون الدعم السياسي والعسكري من امريكا، ولديهم مشروع استعماري انفصالي، وهو ما ترفضه الحكومة التركية، لأن نهاية هذا المسار سيكون كياناً انفصالياً باسم الأكراد شمال سوريا، على أرض عربية ليست لهم أصلاً، ويضر بالأمن القومي التركي ثانياً، وهو ما ترفضه الحكومة التركية بشكل مطلق، وإصرار أمريكا على الربط بين الأكراد وإرهابيي «ي ب ك» في خانة واحدة، هو تصرف أمريكي غير قانوني ولا عادل، ووراءه أهداف استعمارية أمريكية، فلا يعقل أن أمريكا لا تدرك مخاطر ذلك على تقسيم سوريا أولاً، وعلى الأمن القومي التركي ثانياً. ولذلك جاء رد وزير الخارجية التركي تشاويش أوغلو على سؤال حول المنطقة الآمنة المزمعة في شمال سوريا، فقال: «إن كان المقصود بالمنطقة الآمنة، هو إنشاء منطقة عازلة للإرهابيين، فإن تركيا سترفض هذه الخطوة»، تركيا ستدعم المنطقة الآمنة التي تساهم في تحقيق الأمن للشعب السوري أولاً، وإزالة مخاوفها الأمنية في تلك المناطق ثانيا، وتركيا لن تسمح لأمريكا باستعمال الفكرة التركية بإقامة منطقة آمنة تحت حماية قوات سوريا الديمقراطية ولا غيرها، فإما أن تكون المنطقة الآمنة بيد الشعب السوري وتحت الحماية التركية مع الفصائل السورية المعتدلة، وإلا لن تقبل بها تركيا.
تركيا لا تعمل لاستمداد مشروعية وجودها العسكري من الاتفاق مع أمريكا او روسيا او غيرها، لأن اتفاقية أضنة ضمنت لها ذلك، ولكنها تفضل ان يكون وجودها العسكري المؤقت في سوريا غير متصادم مع دولة اخرى، أما الأحزاب الإرهابية فهي تبقى هدفاً عسكرياً لتركيا ما دامت تهدد الأمن القومي التركي، بغض النظر عن قوميتها، لأن المستهدف هو المشاريع الاستعمارية في المنطقة وليس أبناء القومية الكردية إطلاقاً. وكما ذكر وزير الخارجية التركية تشاويش أوغلو بأن تركيا تبحث مع المسؤولين الروس فكرة إنشاء المنطقة الآمنة على غرار التنسيق القائم بين أنقرة وواشنطن حول هذا الموضوع، فالأتراك لا يريدون اتفاقاً مع أحد الأطراف الدولية ضد أحد، أمريكا تواجه مشاكل في تواجدها العسكري في أفغانستان وفي العراق وفي سوريا، وما تستطيع تركيا التعاون فيه في سوريا أن يكون الانسحاب الأمريكي لصالح أمن المنطقة، ولصالح استقرار الشعب السوري، وليس لصالح التنظيمات الإرهابية مهما كانت هويتها الفكرية أو القومية أو الطائفية.
كاتب تركي
القدس العربي