الإخوان المسلمون في سورية

مقومات الدولة الحديثة وفق رؤية جماعة الإخوان المسلمين في سورية

مرتكزات الدولة الحديثة


مقدمة:


ترى الجماعة أن الإصلاح السياسي وإقامة الحكم العادل هو المدخل الحقيقي والأساسي لكل أنواع الإصلاح الأخرى، وترى كذلك أن مبادئ الحكم الدستوري في الدولة الحديثة تنسجم في مجملها مع تعاليم الإسلام في الشورى، ونظمه وقواعده في شكل الحكم.

فالشورى هي الهوية الكبرى للحياة الإسلامية في كل مرافقها وهي في النظام السياسي الإسلامي أوثق صلة، وقد حددها قوله تعالى: ((وأمرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون))، والجماعة ترى أن الحكم البرلماني الانتخابي الذي يستند لشرعية صناديق الاقتراع الحر النزيه هو أحد وسائل التطبيق العملي والمعاصر لهذا المبدأ الأساسي الأصيل.

كما أن أول من وضع أسس المواطنة في الأرض العربية هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين دون وثيقة المدينة المنورة التي ضمت المهاجرين والأنصار وغيرهم من الطوائف والقبائل، ووادع فيها يهود، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم.

وقد أصل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لمفهوم الدولة التعاقدية، في خطبته الشهيرة، عندما ولي الحكم: (أيها الناس، إني وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).

أما التعددية السياسية في المجتمع، فالجماعة تنظر إليها كنتاج طبيعي لحرية الفكر والاعتقاد، مصداقا لقوله تعالى: ((ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين))، وإذا كان الإسلام يكفل للناس حرية اختيار عقيدتهم الدينية، فمن باب أولى أن يكفل لهم حرياتهم السياسية. ونحن نعتقد أن إتاحة الحريات السياسية للجميع، فكرا وتنظيما، ليست من التفرق الذي نهى عنه الإسلام، والذي يمزق وحدة المجتمع، بل هي الطريق للمحافظة على الوحدة، مع التنوع الطبيعي لمختلف أطياف الأمة الذي يطلق الطاقات، من أجل بناء مستقبل أفضل.

ولا ننسى كذلك أن الإسلام حدد للدولة بعداً أخلاقيا، ومبادئ داخل أرضها وخارجها، مع أعدائها، ومع أصدقائها، وهي مبادئ تؤمن بالغاية الشريفة، والوسيلة النظيفة، وترفض الغاية التي تبرر الوسيلة، وتجسد مكارم الأخلاق التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين.

تقوم الدولة الحديثة، التي نتبناها وندعو إليها، على جملة من المرتكزات، نعتبرها الأساس الركين لبناء دولة قادرة على القيام بأعباء أي مشروع حضاري، تسعى الأمة إلى تحقيقه في مسيرتها الوطنية والقومية والإنسانية.


أولاً ـ دولة ذات مرجعية :


في حديثنا عن المكون العقائدي والثقافي لمرجعيتنا تبرز خصوصيتنا الإسلامية، التي تشكل المصدر الأساس والمتميز والمهيمن للمرجعية العليا للدولة الحديثة التي ندعو إليها. ونعتبرها أساس مشروعنا الحضاري. ولكن تقريرنا للخصوصية الإسلامية، لا يجوز من الناحية المنهجية أن يحشرنا في إطار الدولة (الثيوقراطية) ولا أن يقابل بالرفض المسبق.

إن نصوص الإسلام المتمثلة في كتاب الله وصحيح السنة تشكل المرجعية الشاملة للسواد الأعظم من أبناء أمتنا، كما أن التراث الثقافي المنبثق عن ثوابت الشريعة، والمتفرع عنها يتغلغل في ضمير الفرد والجماعة، ويشكل المكون الثقافي المهيمن والمتفرد، حتى في (لاوعي) أولئك الذين يتظاهرون بالتمرد على الإسلام، أو بمحاولات الانخلاع منه.

كما أن اشتراك الإسلام مع المسيحية في التأكيد على كثير من هذه القيم، باعتبارهما رسالتين سماويتين. صدرتا أصلا عن مشكاة واحدة، يعزز قيمة هذه المرجعية (القيمية)، ويبسط سلطانها على مجموع أبناء شعبنا.

على أننا نشير أيضا إلى عامل مشترك يدعم مرجعيتنا يمكن تسميته (بالقانون الفطري) وهو: منظومة القيم المكنونة في أعماق الفطرة الإنسانية: (الحق والباطل) (الخير والشر) (الحسن والقبيح). وقد ورد نبويا بلفظ: (فتوى القلب) إذ تشير كل هذه المعاني إلى منظومة من القيم الإنسانية العليا، التي تقع موضع إجماع إنساني عام. رصيد الفطرة هذا معتبر لدى كافة الرسالات السماوية بعد أن تهذبه وتزكيه بتخليصه من شوائب الانحراف والشذوذ، وهو (المعروف) الذي تعرفه الفطر السليمة، وتقره العقول الرشيدة، وضده (المنكر) الذي تنكره الفطر والعقول، ويأتي الشرع مؤكدا لما أقرته الفطرة.

وإلى جانب هذه المشاركة العامة بالمرجعية (القيمية) ثمة التوحد بالاعتزاز بالإنجاز الحضاري الذي تم عبر تاريخ مشترك متجذر في أعماق التاريخ. وتتمثل الإنجازات الحضارية الإسلامية برمزيتها الإنسانية في: عدل عمر، وشجاعة خالد، وإنسانية صلاح الدين وفروسيته، كما يشكل البناء الحضاري الفكري والثقافي والمنهجي خلفية مشتركة تصلح أساسا للبناء.

وحين نتحدث عن الهوية العربية الإسلامية لقطرنا إنما نتحدث عن انتماء قطرنا العربي السوري إلى منظومته العربية انتماء واقعياً وتاريخياً، ولا يعني أننا نتحدث عن انتماء عرقي أو (شوفيني) متعصب، وإنما نتحدث عن جوهر خاص في هذه الأمة شارك في تشكيل ذاتيتها، وحدد ملامح هويتها، ورشحها من بين سائر الأمم لحمل الرسالة الخاتمة، وأهلها للشهادة على الناس ((وفي ذلك ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس)) حتى ليقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيان هذا الجوهر: (تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) وقد روي في الحديث: (حب العرب إيمان وبغضهم نفاق) وروي أيضا: (إذا ذلت العرب ذل الإسلام)

نخلص من هذا للقول بأن مرجعيتنا ترتكز بوضوح إلى هوية أمتنا العربية المسلمة وثوابتها.


مفهوم الدولة الإسلامية


الدولة الإسلامية هي ما نطلق عليه الدولة (الحديثة) بالصيغة التي نقدمها في مشروعنا هذا، وليست بالدولة (الثيوقراطية) ولا هي بالدولة (العلمانية).

ولعل أهم ما يميز الدولة الإسلامية عن غيرها هو الأهداف العامة التي تتحمل هذه الدولة عبء القيام بها، والتي أوجزها المتقدمون بقولهم (القيام على أمر العباد بما يصلح معاشهم ومعادهم.) فثنائية الاهتمام بالمعاش والمعاد هي أول مميزات هذه الدولة.

وفي سبيل ذلك تسعى هذه الدولة إلى تحرير العقل البشري من التقليد والخرافة والوهم، وذلك عن طريق بناء العقيدة السامية النقية القائمة على الإيمان بالله وحده، وتوجيه العقل نحو الدليل والبرهان والتفكير العلمي الحرّ. ولذا كافح الإسلام الوثنية، والجهل. ووضع الإنسان على مدرجة التفكير المنطقي السليم، وطالما ردد القرآن الكريم (لعلهم يعقلون) (لعلهم يتفكرون) (لعلهم يذكرون).

كما تسعى الدولة الإسلامية إلى إصلاح الفرد نفسياً وخلقياً وتوجيهه نحو الخير والإحسان وأداء الواجب كي لا تطغى مطامعه وشهواته على عقله. كما تسعى إلى إطلاق طاقات الفرد وفق ضوابط منهج قويم ليكون فاعلاً إيجابياً، قائماً بالحق، وربط نفسه بعقيدة الثواب والعقاب في الآخرة، لكي يكون في مراقبة دائمة لأعماله.

وتسعى الدولة الإسلامية ثالثا إلى إصلاح المجتمع ليسود فيه الأمن والعدل، وتصان فيه الكرامة الإنسانية والحريات العامة، وتفتح أمام أبنائه فرص التنافس الحرّ الشريف للمشاركة في العمران البشري في ظلال الرحمة والكفاية والتكافل والدعوة إلى الخير.

باختصار فإن هدف الدولة حسب المنظور الإسلامي بناء الإطار العام للعيش الإنساني الكريم، في ظلال منهج الله سبحانه وتعالى الذي ينفي عن الحياة الإنسانية الشقاء والضنك ((ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)).


بين الدولة الإسلامية والدولة الدينية:


إن الإسلام لم يقرر مصدراً غيبياً (للسلطة) يولد مع الحاكم. بل حارب (أدعياء الألوهية والربوبية) بكل أشكالها وأنماطها، وقرر المساواة بين بني البشر فهناك خالق (هو رب العالمين) وهناك مخلوق هم البشر أجمعون. وأسقط كل دعاوى التكريم على أساس النسب (يا فاطمة بنت محمد اشتري نفسك لا أغني عنك من الله شيئا.) فلا قداسة لحاكم بحكم مولده، أو نسبه.

وكذلك فقد أبطل الإسلام كل دعاوى (العصمة) التي يتذرع بها حكامٌ ادعوا في يوم من الأيام أنهم مقدسون أو ملهمون، والعصمة في التصور الإسلامي، وقف على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه تبارك وتعالى، ولم ينشئ في بنيانه أبداً ما يعرف بالمؤسسة الدينية، لا في صورة فرد، ولا طبقة، ولا مؤسسة: (كالبراهمة) مثلا عند الهنود (والأحبار) عند اليهود و(الاكليروس) عند النصارى لأن العلاقة بين (الرب) و(العبد) في الإسلام علاقة مفتوحة بلا وسطاء ((إياك نعبد وإياك نستعين))، ((قل آمنت بالله ثم استقم)).

وقرر الإسلام أن العقود الشرعية العامة والخاصة هي عقود مدنية كذلك.

ففي منظومة الضوابط الشرعية يبقى (العقد شريعة المتعاقدين) حسب ما تقرره اليوم أرقى الشرائع المدنية. (والمسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) ويبقى الوفاء بالعقود، واجباً شرعياً ومدنياً ((يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)).

وقاعدة الضبط الذهبية لهذه العقود هي المرجعية العامة التي نحن بصدد الحديث عنها. إننا أمام نظرية العقود الإسلامية إزاء شريعة مدنية تنضبط بضوابط عامة تعصم الإنسان عن أن يجور أو ينحرف عن سنن الفطرة، أو معالم الحق الأصيل، كما تحمي الإنسان الضعيف من جور القوي، والفقير من عسف الغني.

والفارق الأهم بين الدولة الإسلامية والدولة (الثيوقراطية) هو أن مصدر الولايات جميعاً في الدولة الإسلامية إنما هو الأمة. (ولقد أجمع مجتهدو الفرق الإسلامية كافة، ماعدا الشيعة، أن مصدر الولايات هو الاختيار القائم على الرضى المتبادل بين أهل الحل والعقد وبين الإمام الذي يقع عليه الاختيار.). ومصطلح أهل الحل والعقد هو التعبير الإسلامي عن الآلية المعبرة عن إرادة الأمة والتي يكون لها في كل عصر صورتها المؤدية للغرض منها.

فالأمة هي مصدر الولايات، وخيار الأمة وبيعتها هي التي تمنح الحاكم أو صاحب الولاية حقه في السمع والطاعة. أي تمنحه السلطة. والسمع والطاعة للحاكم في التصور الإسلامي حق ذو وجهين مدني يستمد من العاقد ما وفّى المعقود له بالعقد، وشرعي ينبع من طاعة الله سبحانه الذي فرض على المؤمنين الوفاء بالعقود ((يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)) ولذلك يبقى حق السمع والطاعة مرتبطاً بموضوع العقد وشروطه الأساسية (إنما الطاعة في المعروف) (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) أي خارج إطار العقد المتفق عليه بين الحاكم والمحكوم.

والخلاصة: إن الدولة الإسلامية دولة مدنية تتميز بمرجعيتها الإسلامية المتفتحة.


ثانياً ـ التعاقدية


الدولة الحديثة التي نطالب بها، أو نسعى إليها، في إطار مشروعنا الحضاري هي دولة تعاقدية. تقوم على الاختيار الحر المعبر عن إرادة الأمة. والاختيار كما ينص عليه فقهاء القانون، هو مظهر لإرادة حرة تامة الحرية كاملة الشعور بنفسها وقت إنشاء العقد. و(التعاقدية) السياسية كانت هي الأساس الأول في منظومة الفقه الإسلامي النظري والعملي. ولكن هذه الحقيقة غابت أو غيبت تحت ركام (الملك العضوض) الذي انحرفت إليه دول ما بعد الخلافة الراشدة، نؤكد في هذا المقام أن (التعاقدية) بوصفها أساساً شرعياً لاختيار الحاكم هي موضع إجماع فقهي، وأجمع مجتهدو الفرق الإسلامية كلها ـ ماعدا الشيعة ـ على أن طريق الإمامة هو الاختيار والاتفاق. وصاغ علماء الفقه ذلك بالصيغة القانونية فقالوا: إن الإمامة (عقد)، وطرفا العقد في مسألة الإمامة هما: الإمام من جهة، والأمة ممثلة في أهل الاختيار من جهة أخرى.

وتبقى الأمة المنشئة للعقد ابتداءً هي المشرفة عليه، والرقيبة على وفاء الإمام بالتزاماته ومحاسبته، وهي بالتالي تملك الحق في (خلعه) أو (عزله) أو (إقالته) حسب مصطلح كل عصر إذا لم يقم بما أنيط به من مهام حسب شروط العقد.

ويلتبس موضوع التعيين من الإمام المسبق بموضوع البيعة والاختيار، حيث يذهب الماوردي وغيره كثير من فقهاء الفكر السياسي أن الإمامة تتم إما باختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار، وإما بتعيين الإمام السابق؛ إلا أن جمهور الفقهاء، على أن التعيين المسبق لا يعني أكثر من ترشيح ينبغي أن تؤكده بيعة واختيار، ولذا لما صار الأمر إلى عمر بن عبد العزيز بالعهد الذي عهده سليمان، رد عمر رحمه الله تعالى الأمر إلى الأمة وقال إن رضيتم وبايعتم ومن خلفكم من أهل الأمصار قبلت. وإلا فالأمر أمركم وهو مردود عليكم.


ثالثاً ـ دولة مواطنة


المواطنة مفهوم قديم يعبر عن الانتماء السياسي لفرد إلى كيان، وهو غير الانتماء القومي أو الديني، فهذه الانتماءات لا تتطابق، ولكنها تتقاطع فيكون بينها عموم وخصوص.

وقد ظلت هذه الدوائر الثلاث –السياسية والقومية والدينية- حتى يومنا هذا في حركة مستمرة: تضيق إحداها أو تتسع، وتتقاطع إحداها مع الأخرى أو تستوعبها، ولكنها تظل متمايزة دائما. ونتيجة لهذا التقاطع: يضم الانتماء السياسي (المواطنة) أجناسا مختلفة -فتتكون أقليات عرقية ولغوية-، وأديانا مختلفة –فتتكون أقليات دينية-، ويبقى الرباط السياسي هو المواطنة.

لقد كانت وثيقة المدينة النبوية التي عقدت بين المسلمين من مهاجرين وأنصار من جهة، وبين قبائل اليهود المقيمة في المدينة، تأصيلا شرعيا لهذا المفهوم العصري، حين شرعت الانتماء الوطني، وجعلت من وقع على الصحيفة أهلا يجمعهم هدف مشترك (وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة). وقد استخدم فقهاؤنا قديما عبارة تؤسس لهذه المواطنة أيضا حين قالوا أن الذميين من أهل الإسلام، ويرى الإخوان أن المواطنة أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها قد حلت محل مفهوم (أهل الذمة) وأن هذه المواطنة أساسها المشاركة الكاملة، والمساواة التامة، في الحقوق والواجبات السياسية والمدنية التي يكفلها الدستور، وتنظمها القوانين، مع بقاء مسألة الأحوال الشخصية (زواج وطلاق ومواريث..)، والحقوق الدينية محفوظة طبقا لعقيدة كل مواطن.

(إننا حين نعلن أننا جميعا مواطنون في هذا الوطن، متساوون في الحقوق والواجبات.. فهذا لا يعني أننا نسمح لأي إنسان أن يستغل هذه المواطنية، ويستغل العروبة والقومية ليطعن في دين هذه الأمة، ويسخر بتاريخها وحضارتها، ويحقق بذلك طائفية مستترة، وشعوبية مبطنة.)


رابعاً ـ التمثيلية


التمثيلية هي الصيغة الأكثر شيوعاً في عالمنا المعاصر للتعبير عن إرادة (الأمم) و(الشعوب).

يتردد في تاريخ الفقه السياسي الإسلامي مصطلحان: (أهل الاختيار) و (أهل الحل والعقد)، ويمثل هؤلاء الطبقة العامة من رجال الأمة الذين يمتلكون مواقع التأثير فيها بحيث يكونون قادرين على (العقد) للإمام، وعلى (حل) هذا العقد إذا انحرف الإمام أو جار.

وفي كتب الفقه السياسي أحاديث كثيرة عن صفات هؤلاء وميزاتهم، وتمثيلهم لمن خلفهم، وترك الأمر لأهل كل عصر ليختاروا الصيغ التي تلائم زمانهم ومكانهم.

في الآلية التمثيلية تحفظ لنا كتب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يوم العقبة الثانية قال للسبعين المبايعين: أخرجوا منكم اثني عشر نقيباً هم كفلاء على قومهم، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم. كما تحفظ لنا كتب التاريخ، أن سيدنا عبد الرحمن بن عوف عندما أخذ على عاتقه حسم الاختيار بين علي وعثمان، طاف على أهل المدينة مستقرئاً آراءهم حتى سأل كما قال (العواتق في خدورهن.)

إن اشتراك أبناء المجتمع، رجالا وإناثاً في اختيار الحاكم بل في جملة القضايا الكبرى، إما عن طريق الاختيار المباشر، أو عن طريق الاختيار غير المباشر (طريق المجالس النيابية) يبقى هو الصيغة الأكثر عملية، ولكن هذا لا يمنع من أن تخضع هذه الصيغة التمثيلية لمزيد من عمليات التطوير والضبط، لا لتفقد مصداقيتها ومعناها، ولكن لتكون أكثر تعبيراً عن مصالح الأمة، وعمقاً في رؤيتها، وسداداً في مسيرتها.


خامساً ـ التعددية:


في المدينة المنورة ومع أول يوم لقيام الكينونة الإسلامية ذات السيادة، كانت (التعددية الدينية). أول صور التعددية التي ستصبح ملمحاً عاماً من ملامح الحضارة والدولة الإسلاميتين على مرّ التاريخ.

إن الله عز وجل أقر التعايش بين المسلم وغير المسلم، وقد حسم هذا الأمر بقوله تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين))، والإسلام قد أقر في هذا التعايش الزواج والطعام بين المسلمين وأهل الكتاب وهي أخص خصوصيات الإنسان. وفي وثيقة المدينة منح الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود أسس الحقوق المدنية والسياسة في إطار الاعتراف بالتعددية الدينية في الدولة الإسلامية: جاء في هذه الوثيقة: (..وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأهل بيته) ثم تعدد الوثيقة بطون يهود بطناً بطناً وتعطيهم من الحقوق ما أعطت يهود بني عوف. لقد كانت هذه (الصحيفة) الوثيقة أولى الوثائق السياسية في تاريخ الدولة الإسلامية، التي أسست للاعتراف بالتعددية الدينية في إطار المرجعية الإسلامية، وانطلقت هذه الحقيقة مع الدولة الإسلامية لتستوعب الملل والنحل والحضارات، في دائرة من التسامح، اعتبرت أمثولة حضارية في التاريخ الإنساني.

وعلى أساس هذه الرؤية التاريخية، لأبعاد التعددية، وفي ظلال المرجعية العامة التي تقدمنا بها أساسا للدولة الحديثة التي نسعى إليها نؤكد أن التعددية السياسية هي حقيقة واقعة في أي تجمع إنساني، كما أنها سمة أساسية لأي دولة حديثة تسعى إلى بناء وجود تنافسي لتحقيق مشروع حضاري عام.

إن قيام الأحزاب السياسية على أسس من برامج سياسية ذات أبعاد (عامة) أو (خصوصية). وكذا الجمعيات أو التجمعات ذات الطابع الإنساني أو الاجتماعي أو البيئي كل ذلك سيضع البنى الأساسية للمجتمع المدني الفاعل، وللدولة الرائدة التي يسعى جميع أبناء الوطن إلى بنائها.

وإنه لمن المستغرب، أن يصادر بعض الديمقراطيين (العلمانيين) على الديمقراطية، فيضعوا شروطاً مسبقة للأسس العامة لتكوين الأحزاب السياسية، وذلك باستبعاد الأحزاب الإسلامية التي تقيم بنيانها على عقيدة الإسلام، وتشتق برامجها السياسية من شريعته، وهذا ينافي قيمتين أساسيتين من القيم الإنسانية، وهما الحرية والمساواة. فأما منافاته للحرية فلأنه مصادرة لحق سياسي مشروع، وأما منافاته للمساواة، فلأن هذه المصادرة الانتقائية تحرم المواطن المتدين من ممارسة حقه وحريته السياسية، في حين يتمتع غير المتدين بذلك دون حرج!


سادساً ـ التداولية:


إن إقرار التعددية السياسية، القائمة على الحياة الحزبية المعتمدة على البرامج السياسية المختلفة وفي ظلال المرجعية العامة للدولة التي تقدمنا بها ستجعل من التداولية الثمرة الطبيعية لكل أشكال النشاط: السياسي أو المدني. من (التداول) اشتقت العرب لفظ (الدولة) وقالت (الأيام دول). وفي الكتاب العزيز (وتلك الأيام نداولها بين الناس ).

والتداولية، في بعدها الأول هي المقابل الموضوعي التاريخي لحالة (الملك العضوض) الذي جاء بعد الخلافة الراشدة على أساس التعيين (ولاية العهد)، للابن أو الأخ بدلا من اختيار الأمة!

والتداولية في بعدها الثاني هي المقابل الموضوعي أيضاً لحاكم يقوم على أمر الأمة مدى الحياة، أحسن أو أساء، نجح أو أخفق، على النقيض من الأساس الإسلامي الخالد: (إن أحسنت فأعينوني، أو أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم)، وللأمة كامل الحق مع حاكمها، أن توليه لفترة معينة، والمسلمون على شروطهم.

والتداولية في بعدها الثالث هي رفض لمناهج فرضت نفسها بالقوة (الجبرية) على الأمة، وأعلنت وصايتها عليها تحت شعارات العلمانية أو شعار الحزب القائد. إنه لا بد من كسر طرف حلقة الجمود الآسن، ولا بد من التحرر من كل أشكال الوصاية البشرية حيث (يتأله الإنسان على الإنسان)، كما قال ربعي رضي الله عنه: (جئنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله).

فالتداولية التي ندعو إليها، هي تداولية المناهج والبرامج والرؤى والاجتهادات في إطار المرجعية العامة للأمة.

والتداولية في بعدها الرابع هي التداولية بين القوى والأحزاب السياسية، التي يتم دعمها من الإرادة الوطنية العامة، عبر صناديق الاقتراع الحر والنزيه، وعلى أساس البرامج والشخصيات العامة التي تتقدم بها لجماهير الأمة.


سابعاً ـ المؤسساتية:


الدولة الحديثة القادرة على تحمل عبء مشروع نهضوي، والتقدم في طريق إنجازه، هي دولة (مؤسساتية) .

وتعني المؤسساتية فيما تعنيه، أن العمل يتم بروح وجهد الفريق، كما تعني أن يتولى أصحاب الاختصاص مهامهم في كل ميدان من ميادين الإنجاز.

وإن من أوائل ملامح المؤسساتية أن تتحول سلطات الدولة، وأجهزتها، ومرافقها لخدمة المشروع الوطني العام، لا أن نُجند جميعاً في خدمة السلطة التنفيذية، أو أي مركز من مراكز القوى المتحكم بهذه السلطة سواء كان (فرداً) أو (فئة) أو (حزباً). ففي إطار المؤسساتية تتضح في بنية الدولة ملامح السلطات الثلاث المستقلة، والقادرة في أساس بنائها على ممارسة دورها المناط بها بعيداً عن أي شكل من أشكال: (الوصاية) أو (السيطرة) لأي جهة كانت.

وفي إطار المؤسساتية يتحول الجيش إلى جيش وطني يحمي الوطن كل الوطن، وتتحول المؤسسة الأمنية إلى مؤسسة تحمي حرية المواطن، وتسد الاختراقات التي يمكن أن يحدثها العدو في البنيان الوطني، ولا تكون أداة للسحق أو القمع. وفي إطار المؤسساتية يكون الإعلام، إعلام دولة لا إعلام سلطة، وفي إطار المؤسساتية ستجد العقول المهاجرة أو (المهجّرة) مكانها في سياق وطني عام منتج ومنجز.

إن الدولة القائمة على (المؤسسة) هي الناسخ للدولة الفردية، وهي الرديف المباشر لدولة تقوم على (الشورى) ليس في شكلها الصوري، ولا في مستواها التشريعي فقط ؛ وإنما الشورى التي تغطي كل بنية من بنى الحياة: السياسية أو المدنية.
 

ثامناً ـ القانونية:


ونعني بذلك أنها دولة تعلو فيها سيادة القانون، ويتقدم فيها أمن المجتمع على أمن السلطة، ولا تحل فيها حالة الطوارئ مكان القانون العادي. وسيرد تفصيلنا لهذا المرتكز في الفصل الأول من الباب السابع من هذا المشروع.

المصدر: المشروع السياسي لسورية المستقبل- رؤية جماعة الإخوان المسلمين في سورية

محرر الموقع