الإخوان المسلمون في سورية

من ملف مأساة العصر في حماة (1)

 

مع كل ذلك التعتيم، فقد بقيت معالم المأساة وتفاصيلها المروّعة، محفورةً في ذاكرة الآباء والأجداد والشقيقات والأشقاء والعمّات والأعمام والخالات والأخوال، الذين كتب الله لهم الحياة، بعد أن فقدوا أربعين ألفاً من أرحامهم، وشاهدوا بأعينهم جنود (هولاكو سورية)، وهم يقتلون ويدمِّرون ويهتكون ويسرقون وينهبون ويعتقلون ويعذِّبون ويروِّعون!.. كل ذلك ما يزال محفوراً في أخاديد الذاكرة، التي ما تزال تعرض شرائط الجريمة حيةً رطبةً بالغة الوضوح.

 

سنناقش بإذن الله (في خمس حلقات) كلَ ما انتهكه السفاحون، من حقوقٍ إنسانية، خلال مجزرة القرن ومأساتها المستمرة، واللهَ نسأل أن يُزيحَ هذه الغمّة عن صدور أبناءِ حماة وأبناء سورية والشرفاء في كل مكان.

 

* * *

 

أولاً: سادية القتل لمجرّد القتل

 

بلغت ذروة الإجرام والإرهاب لعصابة الحكم الأسديّ برئاسة (حافظ أسد).. بارتكاب مجزرة حماة الكبرى، التي خلّفت دماراً وضحايا، استحقت نتيجتها أن تسمى بـ (مأساة العصر)!.. فقد بدأت المأساة بتاريخ (2/2/1982م)، واستمرت أربعةً وثلاثين يوماً، وارتكَبَت جرائمها وحداتٌ من الجيش وسرايا الدفاع والوحدات الخاصة والمخابرات والأجهزة الأمنية والميليشيات الأسدية، التي أعملت بالمدينة قصفاً وحرقاً ورجماً بالصواريخ وإبادةً، ما أدى إلى قتل حوالي (أربعين ألفاً) من المواطنين، وتهديم أحياء كاملةٍ في المدينة، و(88) مسجداً، وأربع كنائس، وتهجير عشرات الآلاف من السكان، واعتقال الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، وفَقْدِ الآلاف أيضاً!..

 

لقد كانت (مأساة حماة ومجزرتها الكبرى) المروّعة في عام 1982م، تتويجاً لمرحلة الانفجار الشامل آنذاك في سورية، بسبب السياسة الاستئصالية للنظام الدكتاتوري، وبرهاناً للشعب على أنّ هذا النظام القمعيّ لن يتخلى عن ظلمه وبطشه ونهجه الاستبدادي مهما كلف ذلك من دماءٍ ودَمار!.. لكنّ حمامات الدم التي ارتكبها النظام الدكتاتوري، لم تستطع حل المشكلة السورية، بل زادتها تعقيداً، وإنّ الرفض الشعبي لنهج القمع والاستبداد والديكتاتورية والأحادية.. ما تزال مستمرة، ولن تنتهيَ إلا بزوال الإرهاب السلطويّ، فالوطن لكل أبنائه، وليس لفئةٍ أو حزبٍ أو طائفةٍ بعينها، وليس أمام شعبنا وقواه الوطنية إلا اقتلاع العصابات الأسدية من جذورها، لأنها عصابات إجرامية مستبدّة.

 

إنّ الوحشية الاستئصالية الدموية التي اتبعها نظامُ الحكم الفاسد في حماة ، كانت متعددة الوجوه، يأتي في طليعتها: الوجه القاتل لمجرّد القتل والتشفّي، انطلاقاً من حقدٍ طائفيٍّ أعمى، عملت شياطين الأسديين على تغذيته وحقنه في نفوس المجرمين الشاذين، ليؤدوا في حماة دوراً مقدَّساً في عُرفِ هؤلاء الحاقدين، الذين تُغذي سلوكهم أمراضٌ ورثوها عن الجهلة من عميان البصر والبصيرة، وفاقدي الضمائر الحية السوية، فكان العدوان وسفك الدم.. لمجرّد سفك الدم، وكانت الأحقاد التاريخية الدفينة تدفع بمجرمي حافظ أسد وبقية الحاقدين.. إلى سحق الحياة الإنسانية وكل مظاهرها الحضارية في حماة، فكان يمارَس القتل على الهوية من غير تمييز، والقتل لم يكن يشفي أحقادهم، بل كانوا يعملون على التمثيل بجثث ضحاياهم بأبشع صورةٍ وأسوأ أسلوب!..

 

بذلك أبيدت أسر كاملة في حماة، فمجزرة حماة الكبرى تكوّنت من عشرات المجازر في أرجاء المدينة، ثم في خارج المدينة وفي ضواحيها، التي سيق الناس إليها من مختلف الأعمار نساءً ورجالاً وأطفالاً، وبشكلٍ اعتباطيٍ لا تفسير له، سوى الرغبة بقتل أكبر عددٍ ممكنٍ من سكان حماة، وبذلك أبيدت أسر كاملة من عائلات: المصري والصحن والزكار والكيلاني والقياسة والشيخ عثمان وموسى والدباغ والصمصام ومغيزيل والقرن ودبور وعلوان وحمود وكوجان وأبو سن وعصفور.. وغيرها!..

 

لقد ورد في تقارير لجان حقوق الإنسان وصف لمجازر فرديةٍ وجماعية، وأفادت اللجنة السورية لحقوق الإنسان في تقريرها عن انتهاكات حقوق الإنسان خلال ارتكاب مجزرة حماة الكبرى (انظر تقرير اللجنة الصادر في 20 شباط 2002م).. أنّ الساحات العامة في المدينة، والمدارس، والمستشفيات، والمقابر، والملاعب.. تحوّلت إلى مسارح لمجازر جماعية.. على أنّ مجزرة (سريحين) كانت دقيقة الوصف، وصفها ناجون من المجزرة بعد أن شهدوا كل تفاصيلها، إذ سيق بعض السكان في إحدى عشرة شاحنةٍ إلى منطقة (سريحين) قرب حماة، وهناك تمت تصفيتهم في خنادق خاصة، كان قد صُفِّي فيها أيضاً أعداد سابقة من مختلف الفئات العمرية ومن الجنسين.. وذلك بعد نهب ما بحوزتهم من أموالٍ ومقتنيات.. ودُفِنَت أفواج المذبوحين في مقابر جماعية.. وبعض الضحايا عندما دُفِنوا كانوا مضرَّجين بدمائهم وما يزالون جرحى بين الحياة والموت!..

 

كما سجلّ تقرير اللجنة السورية لحقوق الإنسان نفسه، مجازر: الملعب البلدي، وأحياء: البياض وسوق الشجرة والدباغة والباشورة والعصيدة والشرقية والشمالية والبارودية وجامع الخانكان.. وغيرها.. وراح ضحيتها آلاف الأشخاص دون تمييز، سواء بالعمر أو بالجنس!..

 

لقد أتت المجازر الجماعية والفردية على أرواح آلاف الناس، واستمرت شهراً كاملاً دون توقف.. ولم يكن الهدف من ارتكاب هذه المجازر إلا القتل، القتل فحسب، بشكلٍ ساديٍ حاقدٍ لم تعرف سورية مثيلاً له في تاريخها!..

 

إنها صورة سريعة لسادية القتل الأسديّ، نَصِفُها ونهديها إلى أولئك الذين ما يزالون يطعنون شعب سورية المكلوم بظهره غدراً، أمام كاميرات التلفزيون السوريّ، تعبيراً عن مساندتهم للعصابة الحاكمة الفاسدة في دمشق.. مساندتها في قتل شعبنا، والاحتفال بأنخاب دمائنا.

 

* * *

 

د. محمد بسام يوسف