لم تقتصر مأساة حماة على القتل والتدمير، بل تعدّت ذلك إلى مآسٍ إنسانيةٍ أخرى ما تزال سارية المفعول حتى اليوم، أي بعدأكثر ثلث قرن.. لأنه خلال المجزرة الكبرى، وخلال عمليات الإبادة التي استمرّت أكثر من شهر.. لم تنتهِ عمليات المداهمة والاعتقال، بل اشتدّت إلى أضعافها بعد انتهاء المواجهات والسيطرة على المدينة من قِبَلِ جنود (الصمود والتصدي) الأسديين.. وكانت الاعتقالات عشوائية، طالت النساء والرجال والأطفال، فوصل عدد المعتقلين إلى عشرات الآلاف، حُشِروا في معتقلاتٍ مؤقّتةٍ بكثافةٍ شديدة، ويجدر بنا -لتقدير شدّة القمع والاضطهاد اللذَيْن تعرّض لهما سكان المدينة- أن نذكرَ بأنه في (المدرسة الصناعية) وحدها.. حُشِرَ خمسة عشر ألفاً من أبناء المدينة معتقلين!..
يكفي أن تكون حموياً في ذلك الوقت.. ليتم اعتقالك والتنكيل بك!.. وعلى هذا، اعتُقِلَت مجموعات من الحمويين عند نقاط الحدود كانوا يسافرون دخولاً إلى سورية أو خروجاً منها.. واعتُقِل أعداد من طلاب الجامعات خارج حماة.. كما اعتُقِل عدد كبير من الحمويين الذين نزحوا إلى محافظاتٍ أخرى فراراً من القتل والذبح على الهوية!..
الأعداد الضخمة من المعتقلين انقسمت إلى أقسامٍ عدة، فمنهم من تمت تصفيته فوراً بعد الاعتقال، ومنهم من تمت تصفيته بعد حملات تعذيبٍ رهيبةٍ داخل السجون المؤقّتة، ومنهم من توفي جوعاً وبرداً، أو بسبب الأمراض التي كانوا يعانون منها.. والآلاف منهم اختفوا، ولا يزال مصيرهم مجهولاً حتى الآن، وقد قيل إنّ قسماً من هؤلاء سيقوا إلى قرىً خارج المدينة، وتمت تصفيتهم بمجازر جماعية، ودفنوا في مقابر جماعيةٍ أيضاً (قرية براق، وسريحين، و..)، وبعضهم نُقِلوا إلى سجن تدمر الصحراويّ الرهيب، وتمت تصفيتهم هناك بالإعدامات المنظّمة!..
الاعتقالات كانت انتقاميةً على الهوية، والتصفيات كذلك، كما حدث لآل المصري، الذين نادى جنود النظام عليهم جميعاً في أحد المعتقلات الجماعية المؤقتة، أي على جميع آل المصري أن يتجمعوا معاً، ثم حملوهم إلى مقبرة سريحين قرب حماة، وهناك تمت تصفيتهم جميعاً رحمهم الله، ودُفِنوا في مقبرةٍ جماعية!..
* * *
الإخفاء لم يكن بحق شريحةٍ محدّدة، بل نال من كل الشرائح الاجتماعية، نساءً ورجالاً وأطفالاً وشيوخاً وعجزة.. وكذلك من الأطباء والمهندسين والعمال والصيادلة والمعلمين وأئمة المساجد والمؤذّنين والخطباء والعلماء.. وغيرهم.. كما أنّ قوات النظام الأسديّ، أخفت كل المقابر الجماعية التي دُفِنَ فيها عشرات الآلاف من الضحايا!..
عشرات الآلاف من أهالي حماة فرّوا من المدينة بعد انتهاء التصفيات، منهم من لجأ إلى المحافظات الأخرى، لاسيما محافظة حمص المجاورة، التي امتلأت مساجدها الكبيرة بالعائلات الحموية النازحة (مثل جامع خالد بن الوليد الشهير).. ومنهم مَن فرّ إلى خارج سورية، إذ هاجرت عائلات كاملة، وتركت وراءها الوطن والدمار والمآسي المتعددة.. وكانت قوات النظام الأسديّ تلاحق العائلات في المحافظات الأخرى التي لجأت إليها، لتنكّل بأبنائها وبناتها اعتقالاً وتعذيباً وتشريداً وضغوطاً نفسية!..
* * *
الذين قُتِلوا أو هاجروا أو اختفوا.. نُهِبَت كل ممتلكاتهم، سواء أكانت أثاثاً للبيوت، أم مجوهرات، أم أموالاً نقدية، أم محالاً تجارية، أم ورشاتٍ صناعيةً خاصة، أم سياراتٍ.. أم غير ذلك.. فقد كان جنود النظام الأسديّ يداهمون البيوت، وينهبون كل محتوياتها، ثم يُضرمون النيران فيها، أو يعمدون إلى تفجيرها.. كما كانوا ينهبون المحالّ التجارية، وبخاصةٍ محالّ الصياغة والصرافة، وقد نُهِبَت بذلك أسواق كاملة، مثل (سوق الطويل) الذي يحتوي على حوالي (380) محلٍ تجاريّ، و(سوق الصاغة)، الذي يحتوي على عشرات المحال التجارية لبيع الذهب والمجوهرات!..
النهب الذي قام به جنود (الصمود والتصدي) لم يقتصر على الممتلكات الخاصة، بل تعداها إلى المرافق العامة والرسمية، فقد نُهِبَت محتويات المصارف (مصرف التسليف الشعبي، والمصرف التجاريّ السوريّ)، وكذلك نُهِبَت محتويات (المتحف الوطنيّ)، ومحتويات المؤسسات الاستهلاكية الرسمية كلها.. وذلك بالطريقة نفسها التي نُهِبَت فيها محتويات المصانع الخاصة والحرفية الصغيرة!.. وتقدّر قيمة المنهوبات بمئات الملايين من الدولارات!..
* * *
في مأساة حماة، جرى الذي لا يمكن تصديقه، والمختفون لم يظهروا حتى الآن، ولا يُعرَف مصيرهم، والمهجَّرون القسريّون لم يعودوا إلى وطنهم حتى الآن، والأموال المنهوبة بقيت في ذمّة لصوص النظام الأسديّ حتى اليوم.. وقد خلّف ذلك كله مشكلاتٍ اجتماعيةً عميقة، كمشكلات الفقر وحصر الإرث، ومشكلات الزوجات اللواتي لا يعرفنَ مصير أزواجهنّ هل هم أحياء أم أموات، ومشكلات فقدان كل حقوق المواطنة للمهجَّرين الحمويين وباقي السوريين.. حتى الجيل الثالث.. فهناك الآلاف من الأجيال اللاحقة، لا تعترف السلطات عليهم أنهم مواطنون سوريون، فلا جنسية ولا وثائق سفر ولا هويةً شخصية.. ولا اعتراف بزواج.. ولا أي نوعٍ من الاعتراف بهم.. فهل هناك مظلمة أشد من هذه التي يعاني منها السوريون، جرّاء الممارسات الطائفية الحاقدة للنظام الأسديّ المجرم؟!..
* * *