عبدالوهاب بدرخان
حين قال دونالد ترامب لرجب طيب أردوغان «إنه لك»، مشيراً إلى شرق الفرات أو شمال شرقي سورية، فالأرجح أنه كان يعني «خذه إن استطعت» أو «خذه ولكن…». كان الرئيس التركي اعتقد، كسواه من اللاعبين الخارجيين في سورية، أن الرئيس الأميركي طوى مسألة الانسحاب، فراح يرفع الصوت ويشدّد الضغط آملاً في الحصول على دور في شرق الفرات بوجود الأميركيين وبالترتيب معهم، إسوة بما ناله بالتفاوض مع فلاديمير بوتين من «درع الفرات» إلى عفرين ثم إدلب. وبعدما أعلن ترامب قرار الانسحاب لزم أردوغان الحذر، حتى بعد المكالمة الهاتفية الشهيرة، وكان عليه أن يحدّد ما إذا كان الأمر يتعلق فعلاً بـ «تفويض» و»هدية» أم بـ «توريط» و»اختبار» أميركي آخر لقياس عمق التقارب بينه وبين الرئيس الروسي من جهة، ولتقدير مدى التفهّم التركي لعلاقة أميركا بالأكراد الذين حاربوا معها.
عملياً، تبخّر مشروع الاختراق التركي لشرق الفرات، فما لم يتوصل إليه الرئيس التركي بوجود الأميركيين لا يستطيع انتزاعه منهم وهم منسحبون. ولوهلة بدا لأردوغان كأن ترامب منحه شيئاً من دون شروط، ولأنه لا يمكنه أخذه إلا بصفقة مع بوتين فقد حاول التمهيد لها عبر اجتماع وزراء الخارجية الدفاع في موسكو.
على رغم أن هذا الاجتماع انتهى إلى توافق على مبادئ عامة إلا أنه لم يرقَ في التفاصيل إلى الطموح التركي، خصوصاً بالنسبة إلى «عقدة» منبج، إذ كان الكرملين بارك مبادرة النظام السوري إلى تدشين سباق مع الأتراك نحو المدينة، بدعوة كردية وطبعاً بدعم إيراني. عندئذ ظهرت الشروط الأميركية، تجنباً لأي مفاجآت روسية، إذ أعلنت واشنطن أولاً أن برمجة الانسحاب تخضع لمراجعة، وثانياً أن المقاتلين الأكراد سيحتفظون بالأسلحة الأميركية التي زوّدوا بها «لمحاربة داعش».
وقبل أن يصل مستشار الأمن القومي الأميركي إلى أنقرة أبلغ الأتراك أن عليهم التزام حماية الأكراد وعدم التعرّض لهم، وأن أي حملة عسكرية تركية في شرق الفرات يجب أن تتم بموافقة أميركية مسبقة.
خلافاً للأميركيين الذين وافقوا فقط على دوريات مشتركة متقطّعة في محيط منبج وحجبوا عن تركيا أي مكسب آخر متجاهلين مطالبتها أنقرة بوقف تسليح الأكراد، يتردّد الآن أن الروس وافقوا على أن يقيم الأتراك شريطاً حدودياً بعمق ثلاثين إلى أربعين كيلومتراً داخل الأراضي السورية لتبديد هواجسهم الأمنية. كانت واشنطن رفضت شريطاً كهذا وشرعت في إقامة نقاط حدودية ترفع العلم الأميركي، لكن أنقرة اعتبرت ذلك بديلاً غير كافٍ ما لم يرفق بوجود تركي في شمال شرقي الفرات. تنظر روسيا التي ستصبح القوة الرئيسية بلا منازع، غداة الانسحاب الأميركي، إلى الشريط الحدودي على أنه يدعم دورها ولا يتعارض مع خططها، ثم أنه يساهم في اجتذاب تركيا وتثبيتها في محورها، فضلاً عن أنه يقنع أنقرة بالتخلي عن دخول شرق الفرات ويعزّز رغبة موسكو في إعادة هذه المنطقة إلى كنف النظام السوري باعتبارها منطقة النفط والغاز والثروة الزراعية.
ما يجري مع تركيا جزء من التعقيدات المتوقّعة لتوزيع النفوذ والأدوار، فالولايات المتحدة تحاول التحكّم والاشراف على رسم خريطة ما بعد انسحابها من سورية. هناك ثابتان، هما: اعتراف أميركي قسري بالأمر الواقع الروسي مع تفويض شبه كامل لكن بشروط كثيرة، وإصرار على تكريس دور “إسرائيلي” بالتوافق مع روسيا على أن يتمتع بحرية حركة ضد المواقع والأنشطة الإيرانية وبمنطقة حدودية خالية من الوجود الإيراني بعمق متفق عليه. وهناك متحوّلان، أولهما دور إيراني لا تعترف به أميركا وترغب في إنهائه كليّاً أو تقليصه إلى أدنى حدٍّ ممكن معتمدةً بشكل رئيسي على حسم روسيا أمرها إذا أرادت استقراراً حقيقياً في سورية، والآخر دور لتركيا لا تمانعه واشنطن في المبدأ بل في تفاصيل قد تكون حماية الأكراد من بينها لكن أهمها أن التعامل مع الحليف التركي ودعمه مشروطان ببقائه في المحور الغربي – الأطلسي، أما جنوحه إلى المحور الروسي – الإيراني كما يبدو الآن فيخلّ بالمعادلة الأميركية لسورية ويغيّر معايير العلاقة الغربية – الأطلسية مع أنقرة.
هذه مجرد عناوين عريضة للتعقيدات، فانسحاب الأميركيين مربك بما يطرحه من فرص وتحدّيات، بمقدار ما كان وجودهم ملتبساً بما أشاعه من آمال وخيبات. كان التوازن الوهمي الذي شكّله الوجودان الأميركي والروسي منع أي احتكاك بينهما لكنه منع خصوصاً بلورة حل سياسي منصف للشعب السوري. قصرت واشنطن أهدافها على محاربة «داعش» تحت مظلة تحالف دولي وخاصمت الجميع لمصلحة «تحالف» ضيّق مع شريحة لا تمثّل غالبية أكراد سورية وتضم مقاتلين من الـ «بي كي كي» التركي المصنّف إرهابياً. أما روسيا فمارست دوراً موسّعاً يراوح بين التقاسم مع إيران في عملية إنقاذ نظام بشار الأسد وتمكين النفوذ الإيراني مع علمها بأهدافه التخريبية وكذلك تمكين “إسرائيل” من ضرب الإيرانيين وأتباعهم من دون إنهاء وجودهم، بالإضافة إلى استمالة تركيا لقاء منحها رقعة نفوذ على الخريطة السورية.
مع اقتراب الانسحاب الأميركي استخلصت واشنطن من «مهمّتها»، كما وصفها الوزير مايك بومبيو، أن أولويتها «تجنيب الأكراد القتل من جانب الأتراك» و»حماية الأقليات الدينية»، أما حماية السوريين عموماً من القتل بأيدي النظام ثم الإيرانيين ثم الروس فلم يكن يوماً جزءاً من مهمة الولايات المتحدة أو غيرها، علماً بأنه حصل أنظارها. لا يعني ذلك سوى أن لا مشكلة للأميركيين في التعايش مع التضحية بغالبية الشعب السوري من أجل حماية الأقليات. وحين لخّص وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت موقف بلاده بـ «أننا لن نحظى بسلام دائم في سورية مع هذا النظام لكن، للأسف، نعتقد أنه سيبقى لبعض الوقت»، لم يؤخذ من كلامه سوى أن الأسد باقٍ، وإذ أُسقط منه «الأسف» فقد أُسقط الأهم وهو أن بقاء الأسد نقيض لـ «السلام الدائم».
أكثر من مرة طُرحت في الأعوام الأخيرة فكرة إرسال قوات عربية إلى سورية، وكان آخرها في نيسان (أبريل) الماضي، لكن البحث في تفاصيلها كان يعيد تأجيلها. يُعتقد أن الانسحاب الأميركي دفع واشنطن لإعادتها إلى الطاولة، ويبدو أن موسكو لا تمانع، كذلك النظام السوري، خصوصاً إذا كان إرسال القوات العربية في إطار انعاش «شرعية» الأسد وإعادة تأهيل نظامه لاستعادة عضوية سورية في الجامعة العربية. ويُنظر إلى الجزء العربي من شمال شرقي سورية (الرقّة ودير الزور) باعتباره المنطقة التي يمكن أن تستقبل هذا الوجود العربي، سواء لخفض الهيمنة الكردية الإشكالية، أو لقطع الطريق على أي تغلغلٍ تركي وإيراني، أو أخيراً لتمكين نظام الأسد من دخول المنطقة عبر الإدارة المدنية. ليس واضحاً بعد إذا كانت أهداف الفكرة وآليات تنفيذها قد اكتملت، لكن المؤكّد أن بعثات من دول عربية عدة زارت المنطقة للمعاينة برفقة الأميركيين.
لم تكتفِ مصادر كردية مختلفة بتسريب أخبار هذه الزيارات بل رحّبت أيضاً بما هو مفترض من أهدافها. في السابق رفض الجانب العربي أي مشاركة من دون وجود أميركي ضامن، لكن الموافقة الروسية – الأسدية قد تكون مطمئنة، وربما اقترنت أيضاً بإبقاء وجود أميركي رمزي في الشمال وباستثناء قاعدة التنف في الجنوب من خطط الانسحاب الأميركي. معلوم أن الدول الغربية عموماً ترفض التعامل مع النظام في مسألة إعادة الإعمار ما لم يكن هناك تقدّم في العملية السياسية وتشريعات مناسبة وخطط شاملة، لكنها قد تعيد النظر في موقفها لتساهم في الاعمار في منطقة الوجود العربي – إذا تحقّق – وبديهي أن روسيا تشجّع هذا التوجّه طالما أنه الوحيد الممكن، كذلك النظام الذي يدفعه إفلاسه إلى القبول بأي مصلحة مستعادة حتى لو اضطرّ للتضحية بالسيطرة وفقاً لمفهومه الهمجي التقليدي.
* كاتب وصحافي لبناني.
الحياة اللندنية