الإخوان المسلمون في سورية

مَن هُم أهل السُّنّة والجماعة؟

ظهر مصطلح “أهل السنّة والجماعة”، كما يقول شيخ مؤرخي الإسلام ابن جرير الطبري، في أوائل القرن الهجري الثالث، وذلك على أثر الاختلاف بين المعتزلة وجمهور علماء الأمة من فقهاء ومحدّثين، وكان على رأسهم أهل الحديث كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن معين.
ويقال بأن هذا المصطلح ظهر قبل ذلك، في أواخر القرن الثاني.
وكأن الذين وضعوا هذا المصطلح استأنسوا فيه بأحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم مثل:
“عليكم بالجماعة وإياكم والفُرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد. مَن أراد بُحبوحة الجنة فلْيلزم الجماعة. مَن سرّته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن”. رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب.
وأهل السنّة والجماعة هم جمهور علماء الأمة من أهل الأثر ومن الأشاعرة والماتريدية. وإنّ بين كل فئة وأخرى، بل بين الفئة الواحدة بعض خلافات في فروع العقيدة أو فروع الشريعة.
وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم، وهم خير القرون، في تلك الفروع، اختلفوا مثلاً في مسألة رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم ربّه في المعراج، فأثبت ذلك ابن عباس، وأنكرته عائشة الصدّيقة، رضي الله عنهم، وتَبِع كلاً من القولين فريق من الصحابة فمن بعدهم. وكلهم من الفرقة الناجية.
فما ثبت في القرآن الكريم والسنة النبوية من أمور اعتقادية أو عملية واعتقدها المسلم من غير تعسّف في التأويل، فهو من أهل السنّة والجماعة. وذلك كالإيمان باللّه واليوم الآخر، والجنة والنار، والعرش والكرسي… ووجوب الصلاة وما فيها من ركوع وسجود… ووجوب الصيام والزكاة والحج… وتحريم الربا والزنى والخمر… ولا يخرجه من الفرقة الناجية أن يخالف في بعض صفات الجنة والنار (مما لم يثبُت بشكل قطعي)، وأن يخالف في بعض أحكام الصلاة…
وقد يقع الإشكال بسبب الحديث الذي رواه الأئمة أحمد وأبو داود والترمذي، وفيه: “إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملّة. وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملّة. كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة”. وفي رواية الترمذي: “قالوا: مَن هي يا رسول الله؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: ما أنا عليه وأصحابي”.
فهذا الحديث اختلف العلماء في تصحيحه وتضعيفه، وعلى القول بتصحيحه فإن الفرق التي ستكون في النار تظهر بين حين وآخر عبر العصور إلى يوم القيامة. ولا ينبغي النظر إلى عصر واحد والتمحّل في عدّ اثنتين وسبعين فرقة فيه، في النار، ثم تمييز واحدة بأنها في الجنة.
نعم من أخطر الفرق التي خالفت أهل السنّة والجماعة:
1- الخوارج. لأنهم كفّروا جمهور الأمة واستباحوا دماءهم.
2- الشيعة، لا سيما غُلاتهم. أولئك الذين طعنوا بالقرآن الكريم أو أوّلوا بعض آياته تأويلاً متعسّفاً ليوافق ضلالاتهم. ومثل هؤلاء أيضاً القائلون بعقائد باطلة كوحدة الوجود، أو الحلول والاتحاد.
ومن الفِرق المتفرّعة عن الشيعة: النصيرية والدروز والإسماعيلية والقرامطة والبهائية والقاديانية.
3- المعتزلة. ويأتي ضلالهم من حيث تقديمهم حكم العقل على حكم الشرع ولو بتأويلات بعيدة. وهم أصحاب بدعة القول بخلق القرآن.
4- القدرية والجبرية. فالقدرية زعموا أن العبد مستقل بإرادته وقدرته، ليس لله في فعله مشيئة ولا خلق. والجبرية زعموا أن العبد مجبور على فعله ليس له فيه إرادة ولا قدرة.
5- المُنكرون لحجية السنّة النبوية. لأنهم يعارضون القرآن الكريم في مثل قول الله تعالى: ((وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)). {سورة التغابن: 12}، وقوله سبحانه: ((وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا)). {سورة الحشر: 7}، وقوله تعالى: ((وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناسِ ما نُزّل إليهم ولعلّهم يتفكّرون)). {سورة النحل: 44}. وبمعارضتهم للقرآن يعطّلون كثيراً من أحكام الشريعة.
وهذا كله لا يلغي أن يكون لدى الفرق الضالة أجزاء قليلة أو كثيرة من الحق والصواب، وذلك أنهم انتسبوا للإسلام ثم حرفوا فيه ما يتعارض مع أهوائهم.
كما أن الضلال الذي وقعت فيه بعض الفرق لا يجعلها جميعاً خارجة عن الإسلام، فإن الخوارج مثلاً كانوا حريصين على التمسك بأحكام الدين حتى إنهم كفّروا مرتكب الكبيرة. وقد سئل عنهم الإمام علي كرّم الله وجهه: أكفّارٌ هم؟ قال: من الكفر هربوا.
وكذلك المعتزلة، فإن فيهم أئمة عظماء لا نزال نأخذ بأقوالهم فيما لا يتعلق ببدعتهم. ومَن يجهل أسماء كبيرة كالزمخشري صاحب الكشّاف، وصاحب أساس البلاغة، وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.
* * *
يقول العلامة محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي (1114-1188هـ): “أهل السنّة والجماعة ثلاث فرق: الأثرية وإمامهم أحمد بن حنبل (164-241هـ)، والأشعرية وإمامهم أبو الحسن الأشعري (260-324هـ)، والماتريدية وإمامهم أبو منصور الماتريدي (248-333هـ). وأما فرق الضلالة فكثيرة جداً.
ودخل في جملة أهل السنّة والجماعة جمهور الأمة، أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وسفيان الثوري وأهل الظاهر كابن حزم…
والفروق بين الأشاعرة والماتريدية بسيطة. وهم يثبتون لله تعالى الصفات السبعة: الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام. ويؤوّلون الصفات الجزئية كالوجه واليد والقدم والساق والمجيء والنزول… ومن أقوالهم الخلافية: “عندها لا بها”. والاختلاف في أن الإيمان يزيد وينقص أم لا. وكلها اختلافات لفظية أكثر منها اعتقادية.
وكان أوائل هؤلاء أقربَ لعقيدة الأثرية من حيث إثباتُ الصفات الجزئية، لكن المتأخرين منهم أكثروا من التأويل. وهذا كله يبقى في حدود العقيدة الصحيحة، لأن الاختلاف كان في الفروع.
يقول الأستاذ العلامة الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله في كتابه (رجال الفكر والدعوة إلى الإسلام): وكان الأشعري مؤمناً بأن مصدر العقيدة هو الوحي والنبوة المحمدية، والطريق إلى معرفته هو الكتاب والسنة، وما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم، وهذا مفترق الطريق بينه وبين المعتزلة، فإنه يتجه في ذلك اتجاهاً معارضاً لاتجاه المعتزلة، ولكنه رغم ذلك، يعتقد مخلصاً: أن الدفاع عن هذه العقيدة السليمة وغرسها في قلوب الجيل الإسلامي الجديد، يحتاج إلى الحديث بلغة العصر العلمية السائدة، واستعمال المصطلحات العلمية، ومناقشة المعارضين على أسلوبهم العقلي، ولم يكن يسوغ ذلك، بل يعده أفضل الجهاد، وأعظم القربات في ذلك العصر.
وهذا مفترق الطريق بينه وبين كثير من الحنابلة والمحدثين الذين كانوا يتأثمون ويتحرّجون من النزول إلى هذا المستوى.
وكان يعتقد كذلك: أن المباحث التي تتصل بالعقليات والحسيات، لا صلة لها في الحقيقة بالعقيدة والديانات، ولكن المعتزلة والفلاسفة مزجوا البحث في العقيدة بالبحث فيها، بل جعلوها بذلاقة لسانهم وذكائهم مقدمات للبحث في الدين، بل فارقاً بين الحق والباطل.
كان الأشعري يعتقد أن الفرار من البحث فيها بحجة أنها لا تتصل بالدين والعقيدة لا يصح، بل بالعكس من ذلك، يجب على من قام لنصرة السنّة أن يواجههم فيها، ويثبت مذهب أهل الحق.
وكان يعتقد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، لم يسكتوا عن هذه المسائل جهلاً، بل لأن هذه المباحث ما نشأت في عصرهم، ولم تمس الحاجة إلى البحث فيها، شأن الفقه والجزئيات الكثيرة التي حدثت بعد عصرهم، فتأمل فيها الفقهاء والمجتهدون، وأبدوا رأيهم فيها، واستنبطوا وفرعوا، وحلوا المشاكل الجديدة، وبذلك عصموا الأمة والجيل الجديد عن الإلحاد والفوضى في العمل والتعطل.
كذلك يجب على حراس الشريعة، ومتكلمي أهل السنة، أن يواجهوا الأسئلة الجديدة التي أثارها المعتزلة والمتفلسفة في موضوع الإلهيات، ويجيبوا عن الاعتراضات والمطاعن التي يوجهها إلى أهل السنة أهلُ الفرق الضالة، ويقدموا الدليل والبرهان العقلي على صحة عقائد أهل السنة ومطابقتها للعقل والمنطق، وقد ألف في هذا الموضوع رسالة أسماها: (استحسان الخوض في الكلام).
موقف جمهور العلماء السابقين من تعدد هذه المدارس العقدية، وتطور هذا الموقف:
جرت سنة العلماء المتقدمين – رحمهم الله – على حسن ظن بعضهم في بعض، ووسعت صدورهم، غالباً، ما طرأ من خلاف في بعض المسائل الفرعية بين أهل السنّة والجماعة، وعَدّوه أمراً طبيعياً مقبولاً، سواء أكان الخلاف في فروع العقيدة أم في فروع الفقه.
فنظر الأشاعرة إلى الأثرية والماتريدية – على الرغم من وجود اختلاف بينهم- نظرة احترام وتقدير، ولم ينقدوا منهم إلا مَن غالى في خلافه، وكان أقرب إلى الفرق الأخرى منه إليهم.
وكذلك نظر الأثرية إلى الأشعرية والماتريدية هذه النظرة، وأطلقوا لقب أهل السنّة والجماعة على هذه الطوائف جميعها، ولم يخرجوا منها إلا مَن شذّ أو غالى وتطرّف..
ويقول الإمام ابن تيمية: كان أبو الحسن الأشعري وأصحابه منتسبين إلى أهل السنّة والجماعة. كان منتحلاً مذهب الإمام أحمد ذاكراً أنه مقتدٍ به، متبعٌ سبيله، وكان بين أعيان أصحابه من الموافقة والمؤالفة لكثير من أصحاب أحمد ما هو معروف. ويقول ابن تيمية: فمن لَعَنَ الأشاعرة عُزّر، وعادت اللعنة عليه.
ووُجد، مع الأسف، في مختلف الفرق، متعصّبون طعنوا في أصحاب الفرق الأخرى.

محمد عادل فارس