محمد زاهد جول
يمكن القول بأن السياسة الروسية نجحت من خلال ضغوطها السياسية والعسكرية في إخراج الحل العسكري من قناعات كافة أطراف الصراع والحرب في سوريا، وأن التوجه إلى الحل السياسي هو الخيار الوحيد أمامها.
كانت البداية صعبة جداً على السياسة الروسية، لأنها حاولت أن تحصل على هذه النتيجة باتفاقياتها الثنائية مع الإدارة الأمريكية السابقة، ممثلة بوزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لابروف، بعد توقيعهما اتفاق يوقف إطلاق النار في سوريا بين عامي 2016 و2017، ولكنها فشلت في وقف القتال، واضطر الرئيس الروسي بوتين إلى اتهام أمريكا، بصورة علنية ومباشرة، بأنها غير جادة بإيجاد حل سياسي في سوريا، وأنها هي المسؤولة عن فشل اتفاقيات وقف القتال فيها، ومع ذلك فإن ما نجحت فيه تلك المفاوضات، بين وزيري خارجية روسيا وأمريكا، كان دليلاً على تحديد الطريق المقبول دولياً، وهو أن الحل العسكري للأزمة السورية غير ممكن، وممنوع وقوعه من كل الأطراف المحلية، باتفاق أكبر دولتين عسكريتين في العالم، وفي سوريا تحديداً.
هكذا بدأت الأطراف الإقليمية البحث عن الحل السياسي، وعدم التعويل على الحل العسكري، وحيث أن أمريكا مشاركة في الحل السياسي في مؤتمر جنيف منذ يونيو/حزيران 2012 بل قائدة فيه، وكانت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون مصممة لمكوناته السياسية وبرامجه في الانتقال السياسي السلمي، بحسب شروطها ومصالحها، فقد تعثر تطبيق اتفاق جنيف1، وتم تحميل التفسير الروسي لمقررات ذلك الاتفاق مسؤولية فشله، والبحث عن جنيف2 وما بعده بدون نتيجة، واضطرت الدول المتأثرة سلبياً باستمرار الحرب في سوريا إلى الالتقاء في مؤتمر أستانة، بعد تفاهمات ثنائية بين تركيا وروسيا أولاً، نجحت تركيا فيها في تغيير الموقف الروسي اتجاه المعارضة السورية المعتدلة، من خلال اعتراف روسيا بالمعارضة السورية المعتدلة، كطرف أساسي لوقف إطلاق النار أولاً، ثم في إيجاد حل سياسي منشود في سوريا ثانياً.
وبهدف ضمان تنفيذ ما يصدر عن مؤتمر أستانة من اتفاقيات وقف إطلاق النار، تم إدخال إيران إلى عضوية المؤتمر والتوقيع على بنوده، وتمت تسمية الدول الثلاث روسيا وإيران وتركيا كدول ضامنة للاتفاقيات التي يتم التوصل إليها في أستانة، وبالأخص اتفاقيات خفض التصعيد العسكري لأربع مناطق، تشمل معظم الأراضي التي تسيطر عليها الدول الثلاث، أو التي تحت هيمنة نفوذ هذه الدول وتوابعها من الفصائل السورية المسلحة. ورغم ما وقع من انتهاكات وخروقات لاتفاقيات خفض التصعيد، من قبل ميليشيات الأسد أو ميليشيات إيران، أو من الجيش الروسي نفسه فإنها صمدت كاتفاقيات تهدئة تحتاجها الدول الثلاث، وبالأخص روسيا وتركيا المتضررتين جداً من استمرار الحرب في سوريا أولاً، ولا تستطيعان الخروج مهزومتين فيها أيضاً، لذلك تصبر كل من روسيا وتركيا على كافة الصعوبات وتصران على إنهاء الحرب في سوريا قريباً، وبالحل السياسي الذي يوافق عليه الشعب السوري، وهو ممثل بالفصائل السورية المعارضة، والقسم الآخر من الشعب السوري، الذي تمثله حكومة بشار الأسد، وهذا يعني أن الحل السياسي ومشاريعه الحالية والمقبلة هو بين ممثلي كافة قوى الشعب السوري الحكومية والمعارضة، ولا يمكن إيجاد حل سياسي بدون مشاركة كافة الأطراف السورية الداخلية، وهذا لا يتم قبل أن يتم وضع دستور جديد يؤسس لقيام دولة سورية مدنية وديمقراطية ودستورية، يتم انتقال السلطة السياسية فيها سلمياً وديمقراطياً، عبر انتخابات برلمانية ورئاسية حرة ونزيهة وبإشراف دولي وأممي.
هذا التصور لإيجاد مؤتمر دولي لتشكيل هيئة مشتركة من كافة الأطراف المحلية والاقليمية والدولية لتشكيل هيئة صياغة الدستور المنشود، وهو دستور لسوريا ما بعد الحرب، وهو ما تسعى له كل الجهات الراغبة بانتهاء الحرب في سوريا، وهو ما تسعى له في الأرجح القمة الرباعية بين تركيا وروسيا وألمانيا وفرنسا في الأيام المقبلة، فتثبيت الوضع الأمني في إدلب على أساس الاتفاق الروسي التركي الأخير في سوتشي 17 سبتمبر/أيلول الماضي أمر مهم جداً، والأهم منه هو العمل على تشكيل لجنة دستورية لإنجاح كل الاتفاقيات السابقة، سواء اتفاقيات وقف إطلاق النار الجزئية هنا وهناك، أو اتفاقيات تخفيض التصعيد والضمانات الدولية الثلاثية والمشاركة فيها، أو نجاح اتفاق إدلب الأخير بين روسيا وتركيا، وليس ببعيد عنها الاتفاقيات التي أبرمتها تركيا مع أمريكا بشأن الوضع الأمني والإنساني غرب الفرات أولاً، ثم شرقه ثانياً، وحيث أن اتفاقيات شرق الفرات ستكون صعبة جداً، لأن روسيا لا تملك عصا الضغط العسكري على أمريكا، ولا على ميليشيات الأحزاب الكردية التابعة لها، فإن ما ينبغي العمل على إنجاحه هو أن تتواصل أطراف مؤتمر أستانة لتشكيل لجنة الدستور، ولو بإشراف الدول الثلاث روسيا وإيران وتركيا في البداية، وإذا أضيف لها فرنسا وألمانيا فإن ذلك سيكون أكثر نجاحاً وتوفيقاً، وبالأخص أن الدول الأربع روسيا وفرنسا وألمانيا وإيران لها تأثير على حكومة بشار الأسد، ولو بدرجات متفاوتة.
إن إعراب المبعوث الأممي لسوريا ستيفان ديمستورا عن خيبة أمله وتقديمه للاستقالة من مهمته، هو في الغالب بسبب الصعوبات التي يواجهها في تشكيل هيئة الدستور مع حكومة الأسد، وإعلان روسيا التوصل إلى توافق مع تركيا وإيران من أجل تسريع الإجراءات المتعلقة بتشكيل اللجنة الدستورية في سوريا، بالتنسيق مع المبعوث الخاص لمنظمة الأمم المتحدة إلى سوريا، هو نوع من الضغوط السياسية التي تبذلها الدول الثلاث لإنهاء الحرب هناك، وهو ما أعلنته وزارة الخارجية الروسية في بيان لها يوم الأربعاء الماضي أن موسكو احتضنت اجتماعاً لنواب وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران، الدول الضامنة لمسار أستانة حول سوريا، وأن المشاركين في الاجتماع بحثوا بشكل مفصل الوضع القائم على الأرض في سوريا، وأن أهم القضايا المبحوثة هي القضايا المتعلقة بإطلاق أعمال تشكيل اللجنة الدستورية، في إطار قرارات مؤتمر الحوار الوطني السوري، الذي انعقد في مدينة سوتشي الروسية قبل مدة.
هذه الاجراءات والاجتماعات الدولية تواجه صعوبات كبيرة لا تتحدث عنها مباشرة، ومنها موقف حكومة الأسد، حيث علق وليد المعلم على زيارة المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا لدمشق قبل أيام قائلاً: «إن دستور سوريا شأن سيادي»، بينما زيارة دي ميستورا تهدف إلى إقناع نظام الأسد لتأييد تشكيل لجنة تكلف صياغة دستور جديد، بحسب رؤية الأمم المتحدة، كما قال المعلم إن الشعب السوري هو من يقرر الدستور بدون تدخل خارجي، بينما هو يرى أن كل دول العالم الكبرى والاقليمية لها وجود عسكري وسياسي في سوريا، وكأنه يفضل بقاء الوضع الحربي الحالي على ما هو عليه، خشية أن يكون دور الدستور الأممي المنشود يؤدي إلى تغيير النظام السوري، أو أنه لا يزال يحلم بأن روسيا سوف تعيد نظام الأسد إلى ما كان عليه قبل ثماني سنوات، وهو أمر لا ولن توافق عليه كل الدول المشاركة في الحرب السورية، بما فيها روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية.
إن الخطة التي تقدمها الأمم المتحدة بشأن لجنة صياغة الدستور تنص على أن تضم اللجنة 150 عضواً، 50 يختارهم النظام، و50 تختارهم المعارضة، و50 يختارهم الموفد الأممي، وسيكلف 15 عضواً يمثلون هذه المجموعات الثلاث، يقوم خمسة أعضاء من كل مجموعة بإعداد دستور جديد، وهذا يعني أن كل الأطراف الداخلية ستقدم تنازلات للخروج من الأزمة، وإلا فإن الوضع الراهن سيطول، وليس بمستبعد أن تحرك أمريكا حالة السكون الحالية عسكرياً، لرفع الضغوط المطالبة برحيل قواعدها العسكرية من شرق سوريا، أو للتنصل من التزاماتها مع الحكومة التركية بشأن منبج وشرق الفرات.
إن ادعاء وليد المعلم أن موضوع الدستور شأن سيادي وداخلي هو تجاهل لثورة الشعب السوري طوال عقود، كان آخرها السنوات الثماني الماضية، وإذا أمكن افتراض أن ذلك كان مؤامرة كونية ضد سوريا، وهو غير معقول، فإن ما لا يمكن أن يتجاهله وليد المعلم وسيده هو وجود جيوش الدول الكبرى والاقليمية في سوريا، فسوريا أصبحت مسرحاً للصراع الدولي، ولن تستطيع حكومة بشار وحدها وضع الدستور السوري المنشود، ولا إبقاء ملايين السوريين مشردين في العالم، كما لن تستطيع حكومة بشار فرض رؤيتها حول الدستور على روسيا وأمريكا والدول الأوروبية، أي أن صراعها في مسألة الدستور هو مع الأمم المتحدة والمجتمع الدول والدول الكبرى، وإلا فإن حكومة بشار تسعى لإدامة الأزمة، بينما ترى روسيا قبل غيرها أن الخيار الوحيد لإنهاء الصراع والحرب الدولية في سوريا هو موافقة جميع الاطراف على وضع دستور تشرف عليه الأمم المتحدة، يتم من خلال تشكيل لجنة دستورية تمثل جميع مكونات الشعب السوري، كما كانت قبل ثماني سنوات، بما فيها إعادة المشردين، وعدم الاعتراف بالتجنيس الذي حصل في سنوات الحرب، ولا الاعتراف بالتغيير الديمغرافي القسري الذي تم فيها.
كاتب تركي
القدس العربي