د. أحمد موفق زيدان
كان حلف الأستانة أول ضحايا الحشودات والتصعيد على الشمال المحرر، فقد بدا من لغة جسم المشاركين في قمة طهران أقطاب الحل الأستاني أن الماء والزيت لن يجتمعا اليوم، بعد أن حاول الأقطاب عبثاً الجمع بينهما عامين متتالين، وأن الكل قد وصل إلى لحظة الحقيقة، بعد أن كان يكابر كل واحد لظروفه الخاصة، وليس للظروف التي اجتمعوا من أجلها، وهي قضية السوريين، فكان التحرك العسكري التركي باتجاه الشمال السوري المحرر رد فعل طبيعي على انتزاع الجغرافيا كاملة من الثورة، بغية تحويل القضية السورية إلى مفاوضات عبثية فلسطينية، وربما أسوأ منها، إذ إن الفلسطينيين لا يزالون يتحكمون على الأقل بجغرافيا غزة والضفة الغربية، أما السوريون فلن يُسمح لهم بأن يعيشوا، ولو على أمتار مربعة، بعيداً عن الاحتلال والطائفيين.
التحرك التركي جاء على محورين مهمين الأول تسيير الأرتال العسكرية من أسلحة خفيفة ومتوسطة وثقيلة، ورجال القوات الخاصة التركية باتجاه نقاط المراقبة التركية الاثنتي عشرة في داخل الشمال المحرر، التي قال عنها الرئيس التركي إن أي اعتداء عليها هو اعتداء على تركيا وأنقرة، وكان يرد بذلك على الطرفين الروسي والإيراني اللذين سعياً عابثين إلى ربط الوجود التركي في سوريا بموافقة العصابة الطائفية الحاكمة، وكان المحور الثاني سياسياً بامتياز حيث جاء التحرك التركي صوب أوروبا وأميركا متناسياً حجم الخلافات التي دبت أخيراً بينه وبين واشنطن، لقي ذلك كله تجاوباً أميركياً وأوروبياً سريعاً، بسبب مخاوف جدية لديهم جميعاً من قنبلة التشرد والعنف التي قد تنجم عن أي هجوم على محافظة إدلب والشمال المحرر التي تؤوي أكثر من أربعة ملايين شخص، ولذا فقد أدّى طلب روسيا عقد جلسة لمجلس الأمن الدولي إلى مفعول عكسي تماماً، حين رفض المشاركون بالإجماع تقريباً الهجوم على إدلب، ودعوا إلى وقف لإطلاق النار، مما أرغم روسيا على التراجع مجدداً، وبدأت تعزف على وتر التهدئة، وتحميل تركيا تبعات ملف تفكيك “الجماعات الإرهابية في إدلب” على حد وصفها.
أدركت موسكو أنها ارتكبت خطأ شنيعاً بالتصعيد مع الرئيس التركي الذي اتجه إلى خصومها في واشنطن، وبالتالي حرمها من الاستفراد بالحل السوري، لا سيما أن المندوبة الأميركية في مجلس الأمن نيكي هايلي وجدت الفرصة سانحة للتصعيد ضد روسيا، والمطالبة بتصحيح مسار الأستانة، فأميركا حين وافقت أو صمتت عن التدخل الروسي في سوريا كان الصمت على التدخل العسكري، وليس على الاستفراد بالحل السياسي، إذ إنها لن تسمح أن تكون بعيدة عن ثمار الحل السياسي، ولذا بدأت بالحشودات في المتوسط، وكذلك بدأت في تغيير مواقفها السابقة كالانسحاب من الشرقية، فعززت التواجد في مناطق الميليشيات الكردية هناك، وهو ما منح الأخيرة نفساً جديداً في التصعيد مع العصابة الطائفية في دمشق.
من المجزوم به الآن أن الوضع في الشمال المحرر بعد مؤتمر طهران ليس كما هو قبله، فحل الأستانة لم يعد مقبولاً أن يصل إلى إدلب، بعد أن ابتلع كل من وقف في طريقه من الغوطة إلى درعا، ولذا فقد أتت التظاهرات الشعبية العارمة التي اجتاحت الشمال السوري لتجدد الدورة الدموية للثورة السورية، وتمنعها من تعرضها لتجلطات قد تطيح بها وبمكتسباتها، كما حصل في مناطق أخرى من المحرر، قبل استيلاء العصابة عليها وبدعم الاحتلال، وترافق هذا مع صفعة قوية وجهتها الاستخبارات التركية بالقبض على الإرهابي التركي يوسف نازيك من قلب اللاذقية، معقل العصابة الطائفية، ونقلته إلى تركيا، ليعترف بدوره وبدور المخابرات السورية ورئيس العصابة الطائفية بشار الأسد في تفجير الريحانية، الذي أودى بـ 53 شخصاً، وجرح أكثر من 150 آخرين.
ليس الحل بالأستانة، التي ثبت أنها لإعادة إنتاج الطاغية، ولقتل كل حلم ثوري في الشام، إنما الحل اليوم بجرأة كل الفصائل الثورية على طرح مشروع وطني حقيقي سوري يلم الجميع ولا يقصي أحداً، ويتعالى فيه الجميع على جراحات الماضي، ويقطعون بذلك الطريق على كل تخرصات دولية وإقليمية، ويكون انعكاساً حقيقياً لحاجة الثورة السورية التي طال انتظارها.