الإخوان المسلمون في سورية

يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم

د. محمد المجالي

 

“يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم”

 

هذه الآية من سورة الانفطار، وهي من اسمها متحدثة عن بعض أهوال يوم القيامة، والمصير المحتوم الذي ينتظر كل واحد منا، حسب عمله وما قدم في دنياه، فالله خلقنا لعبادته، وأمرنا ونهانا وفق حكمته في التشريع والابتلاء العام، ووعد على ذلك الثواب أو العقاب، رحلة مؤقتة لا نعلم مدتها ولا وقت انتهائها، ولكننا نعلم يقينا بالخبر والمشاهدة أننا راحلون لا محالة، ومع ذلك يتيه بعضنا، ويتكبر آخرون، ويلتهي كثيرون، ربما غرتهم أمور، وتأتي هذه الآية لتتحدث عن هذا الغرور الذي ألهى كثيرين عن إدراك الحقيقة، حقيقة هذه الحياة، ودور الإنسان فيها.

 

يخاطب الله الإنسان، كل إنسان، ما غرّك بربك الكريم؟ ما الذي غررك فانصرفت عنه، أو قصّرت في حقه، ذهب بعضهم إلى أنه الجهل، وقيل: الشيطان، وقال آخرون إنه عفو الله وعدم التعجيل بالعقوبة، وأنشد:

 

يا كاتم الذنب أما تستحي

والله في الخلوة ثانيكا

غرّك من ربّك إمهاله

وسترُه طولَ مساويكا

 

ونلحظ من الآية كيف ذكرت اسم (الرب) الدال على الربوبية، فهو الخالق وحده، وهو مقام تربية، وذكر سبحانه اسم (الكريم)، فهو مع قدرته وحكمته وعظمته ورحمته كريم، ومن كرمه هذا الخلق في أحسن تقويم، الإمهال وهذا العطاء لهذا الإنسان، ومع ذلك يقابل ما أعطاه الله له بالإعراض أو اللهو عنه سبحانه، والأصل أن لا يقابَل الكريم بالأفعال القبيحة الناكرة لنعمه وعطائه.

 

تأتي هذه الآية بعد أن ذكر الله في افتتاح السورة ما يحدث بعد النفخ في الصور وقيام القيامة، حين تنفطر السماء، وتنتثر الكواكب، وتفجّر البحار، وتبعثَر القبور، حينها تعلم كل نفس الحقيقة، المصير المحتوم، وأن وعد الله حق، وما التهى الإنسان عنه ها هو ماثل أمامه، يوم يقوم الناس لرب العالمين، هنا يأتي السؤال: “ما غرك بربك الكريم؟ الذي خلقك فسواك فعَدَلك، في أي صورة ما شاء ركّبك”، فهي مما يجب أن ينتبه إليها الإنسان ويدرك فضل ربه الكريم عليه، ولكنه الغرور.

 

لكن السياق يوضح السبب الحقيقي: “كلا بل تكذبون بالدين”، وهذا التكذيب هو الذي يدفعهم إلى التراخي، ومن ثم اللهو عن المصير المحتوم، وهنا يُذَكّرنا الله تعالى بأن أفعالنا وأقوالنا كلها مسجلة: “وإن عليكم لحافظين، كراما كاتبين، يعلمون ما تفعلون”، يدرك أحدنا الحقيقة، ومع ذلك يُعرِض أو يلتهي أو يجحد ويكفر، هذا الإنسان الضعيف الذي يدرك كل يوم مدى ضعفه وجهله ومع ذلك يتكبر ويجحد ويلهو ويلعب عن المهمة الرئيسة التي خُلِق من أجلها.

 

ليس مطلوبا من الإنسان ذلك الشيء العظيم الذي لا يستطيعه، فلم يكلفنا الله تعالى إلا ما نطيق، وما جعل علينا في الدين من حرج، يريد بنا اليسر لا العسر، وما شرعه الله تعالى إنما هو لمصلحة الإنسان في مسيرته هذه المؤقتة في دنياه، بل ليكون في تلك المنزلة من التكريم الإلهي له، ومرة أخرى، إنه الغرور الذي ألهاه عن الانقياد لأمر الله تعالى.

 

تكمل السورة الحديث عن المصير: “إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجّار لفي جحيم، يصلونها يوم الدين، وما هم عنها بغائبين”، ولمن يسال عن يوم الدين يجيبه الله تعالى: “وما أدراك ما يوم الدين، ثم ما أدراك ما يوم الدين، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، والأمر يومئذ لله”، وتكرار السؤال عن يوم الدين تهويل لشأنه، وتذكير للإنسان أن يحسب حسابه، فهو قادم لا محالة، لا ينبغي أن يلتهي عنه الإنسان، وإن التهى لسبب ما، وكلنا عرضة لهذه اللهو وهذه الغفلة، فلتكن مؤقتة، تتبعها توبة واستغفار، حتى يستقيم الأمر بعد الاعوجاج، أو يُنقّى بعد التشويه.

 

كلنا بشر ضعفاء نخطئ ونصيب، وتصيبنا الغفلة والفتور والضعف، لكننا نجدد التوبة والإنابة إلى الله تعالى، من هنا جعل الله تعالى العبادات منوّعة، والصلاة تحديدا جعلها موزّعة على اليوم والليلة، حتى نكون في حالة من الصلة به سبحانه، واستشعار حقه علينا وواجبنا تجاهه، وكذلك جعل ذكره على الألسنة من العبادات السهلة التي لا تكلف الإنسان أكثر من أن يُشْغِل لسانه وقلبه بذكر الله تعالى.

 

شتان بين من يجعل اللهَ أكبر همه، يريد التقرب إليه، والانقياد له، واستشعار معيته دوما، فهذا يسير وهو واثق بنفسه، معطاء إيجابي، ومرة أخرى، لا نريد لمن ضل أو زل أن يشدد على نفسه، حتى لا يقوده هذا إلى يأس من رحمة الله تعالى، بل يسارع إلى التوبة والإنابة، فقد قال سبحانه: “قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم”، وهي كما قال ابن مسعود أرجى آية في القرآن، فهو سبحانه يغفر الذنوب جميعا، هكذا بهذه السعة، مهما بلغت هذه الذنوب وعظمت، فالله يغفرها جميعها. ولكن الناظر في الآية بعدها يدرك ما طلبه الله تصديقا لتوبة هذا العبد، فطلب الإنابة إليه سبحانه، والاتباع لهذا الكتاب العظيم، حتى لا تقول نفس: يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله، أو تقول لو أن الله هداني، أو تتمنى الرجعة: لو أن لي كرّة فأكون من المحسنين!! إنه الوقت المتاح الآن، لنستغله، وندرك الحقائق ولا نتعامى عنها، بل نبادر ونخطط ونرتب أولوياتنا ونحدد أهدافنا، والله أرحم بنا منا إن أقبلنا عليه، وهو اللطيف الخبير الرحمن الرحيم.

 

الغد الأردنية

 

إخوان سورية

أضف تعليقاً