الإخوان المسلمون في سورية

عمر بهاء الدين الأميري.. و”قرآن عربي”

أما الأديب فهو الأستاذ أبو البراء/ عمر بهاء الدين الأميري، ومعظم ترجمته الآتية قد لخصناها من كتاب “من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة” للأستاذ المستشار عبد الله العقيل.
وأما المقالة فهي “قرآن عربي” وهي من كتابه “أم الكتاب”.

عمر بهاء الدين الأميري (أبو البراء)

مولده ونشأته:

ولد في مدينة حلب سنة 1920م، في أسرة متدينة.
أتم دراسته الثانوية في حلب ثم توجّه إلى فرنسة حيث درس الأدب وفقه اللغة في جامعة السوربون، ثم درس الحقوق في الجامعة السورية بدمشق.
عمل مديراً للمعهد العربي الإسلامي بدمشق. واختير سفيراً لسورية في باكستان ثم في السعودية، ودرّس في عدد جامعات المغرب.

أخلاقه:

كان الأميري، رحمه الله، يتصف بالأخلاق السامية، فهو دمث، رقيق الحاشية، حلو الحديث، كريم القلب واليد، محب للابتسامة والنكتة الحلوة والدعابة اللطيفة… وكان واسع الثقافة، كثير المطالعة… وكان مع ذلك كله متواضعاً يخفض الجناح لإخوانه ومعارفه، يحمل هموم المسلمين في كل مكان… فلا جَرَمَ بعد ذلك أن يكون آلفاً مألوفاً، محبوباً من كل من عرفه.

شعره ودواوينه:

بدأ نظم الشعر وهو في التاسعة من عمره، وجمع ديوانه الأول وهو في الثامنة عشرة.
كانت أشعار الأميري معبّرة تعبيراً صادقاً عن اهتماماته. فمنها ما هو مناجاة لله عز وجل، ومدح لرسوله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما يفيض عاطفة نحو أسرته وأبنائه، ومنها ما يتفاعل مع قضايا الأمة وفي مقدمتها قضية فلسطين.
نشرت له دواوين كثيرة نذكر منها: (مع الله)، (أب)، (من وحي فلسطين)، (قلب ورب)، (حجارة من سجيل)، (نجاوى محمدية) وغير ذلك الكثير. كما أثرى المكتبة العربية بعدد من الكتب والمؤلفات، منها: (الإسلام في المعترك الحضاري) و(في رحاب القرآن) و(أم الكتاب) و(الخصائص الحضارية في الإسلام).

مقتطفات من شعره:

سبحان ربي الاعلى
أي سرّ يودي بدنيا حدودي
كلما هِمتُ في تجلّي سجودي
كيف تذرو (سبحان ربي) قيودي
     كيف تجتاز بي وراء السدودِ
كيف تسمو بفطرتي ووجودي
     عن مفاهيم كونيَ المعهودِ
كيف ترقى بطينتي وجمودي
     في سماواتِ عالَمٍ من خلودِ
صلة
الحجر الأسود قبّلتهْ
     بشفتي قلبي وكلّي ولهْ
لا لاعتقادي أنه نافع
     بل لهيامي بالذي قبّلهْ
 

الأميري والعمل الإسلامي:

كان الشاعر الأميري يحمل همّ الأمة، ويرى أن ضياع دولة الخلافة وضياع فلسطين، إنما كان بتكالب كل القوى المناوئة للإسلام، وتفرّق كلمة المسلمين وانقسامهم واستعانتهم بأعدائهم على إخوانهم، فضلاً عن تأخر الأمة الإسلامية في ميدان العلم، وانغماس شبابها في الملذات والشهوات، وتقليد الغرب في قشور حضارته وترك النافع منها.
فكان يدعو إلى العمل الإسلامي الجاد الذي يسعى لإعادة الأمة إلى إسلامها وتطبيق شريعتها في واقع الحياة المعاصر. كما كان يوصي الشباب بالتزود بالعلم النافع، والالتزام بالخلق الفاضل، ويحذرهم من التعجّل لأن طول فترة التربية هو الأسلوب الأمثل لإعداد الرجال الأشداء. وكان يثني الثناء الحسن على حركة الإخوان المسلمين ويرى أنها الحركة التي تتوافر فيها المواصفات المطلوبة للنهوض بالأمة الإسلامية، وأنها استطاعت – بفضل الله – أن تربي الشباب، وتعطي الجماهير الصورة الأصيلة للإسلام، التي يجب أن يفهموها ويتدبروها ويعملوا بها ويدعوا الناس إليها.
وكان الأميري من أوائل من التحقوا بحركة الإخوان المسلمين في سورية مع الأستاذ د.مصطفى السباعي والأستاذ محمد المبارك والشيخ عبد الفتاح أبو غدة وغيرهم من رجالات الشام. وكان له جهود طيبة في رفد الحركة ودعمها وتوجيه شبابها.

منهجه وأسلوبه:

كان الأستاذ الأميري دائم البسمة والبشاشة، ولا يخلو حديثه من النكتة الظريفة والدعابة حين يقتضي المقام ذلك، وهذا ما جعله محبوباً من كل من عرفه عن قرب.

وفاته:

توفي عمر بهاء الدين الأميري بعد مرض عضال ألحّ عليه عندما كان يقيم في المغرب، ثم نُقل بمكرمة ملكية من الملك فهد بن عبد العزيز للعلاج في السعودية، حيث مكث شهرين، حتى وافاه الأجل في مساء الثاني والعشرين من شوال سنة 1412هـ (1992م) ووري في المدينة المنورة.
توفي الأميري الشاعر والأديب والمفكر الإسلامي والداعية، بعد أن أمدّ الجيل المسلم بزاد وفير من الأشعار والمؤلفات التي تصوّر عظمة الإسلام وسموّه، وتصف سبيل النهوض بالأمة الإسلامية من جديد.
رحم الله الأستاذ الأميري، وأسكنه فسيح جناته.

قرآن عربي

في مساحات مديدة، وأقطارٍ مترامية، من ساحات كوننا المعمور، تتبوأ بلاد العرب مكانها المرموق، رابضةً على قابلياتٍ بشريةٍ فائقة، وثروات معدنية سخية، وحقول واسعة خصيبة. فمن تُخوم إيران شرقاً، إلى شواطئ المحيط الأطلسي غرباً، ومن سواحل البحر الأبيض المتوسط، وهضاب الأناضول، في الشمال، إلى المحيط الهندي ومنابع النيل والصحراء الكبرى، في الجنوب، تحتل عشرات الملايين العربية اليوم موقعها الخطير في استراتيجية العالم.
وفي مساحات أوسع مدّاً، وأقطار أرمى بعداً، وثروات أغنى وأضخم، وسكان يَعُدون مئات الملايين، يحفُّ العالم الإسلامي ببلاد العرب من كل جانب، متوجهاً بروحانيته الخالصة، نحو قلبها الخالد، الذي ما فتئ يُفيض النور، هدايةً للناس ورحمةً للعالمين، مستجيباً لأمر أحكم الحاكمين: ((…فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيثما كنتم فولُّوا وجوهكم شطره…)).
هذه البلاد العربية، وتلكم الأقطار الإسلامية، بما بينها من وشائج وثيقةٍ، وأسباب موصولة، وما تتربعُ عليه من كنوز، وتَشْغَلُه من حيز هام في خريطة الدنيا، كانت وما تزال مركز ثقل، ومَحَطَّ أنظار، وإنها قد تبدو اليوم أكثر من ذي قبل، مطمع التنافس المحتدم، بين معسكرات الشرق الشيوعية، والغرب – الرأسمالية، كلٌّ يريد أن يستميلها لوجهته، ويستثمرها لمصلحته، يُقيم فيها قواعده، ويصبغها بصبغته، فيعمل لذلك بكل ما يستطيع من صبر ومكر!.
هذه البلاد والأقطار، على تعددها وتباعدها، جعلها الله – برحمته لها وبعبادتها له – أمةً واحدة: ((إنّ هذه أمتُكم أمةً واحدة وأنا ربُّكم فاعبدون)).
وقد أكرمها سبحانه فارتضى لها ديناً أكمله، وأتم عليها به نعمته – وهو دين الفطرة منذ فطر البشر: ((إن الدين عند الله الإسلام)) – بعد تعهده بهديه وأنبيائه عبر الدهور والعصور حتى وصل إلى أمتنا كاملاً مصفّى ((اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكمُ الإسلام ديناً)). فهو “الإسلام القمة” الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم. ولم تقفْ رحمة الله ونعمته عند هذا الحد بنا، بل خصّنا وميّزنا “بالتوسط” لندعو البشرية كافة، إلى ترك غلوائها وتطرفها، ولنقدّم لها من حالنا حلاً لمشكلاتها، ومن منهاجها نموذجاً تحتذي به في حياتها، وأشهدَنا عليها، فجعل لنا بذلك قوامة وشأناً في الإنسانية، ما دمنا على الديدن والدين الذي ارتضى لنا: ((وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً، لتكونوا شهداء على الناس)) وزاد جل جلاله في تبصيرنا بتبعتنا المقدسة، وبأننا مراقبون مسؤولون فقال: ((ويكونَ الرسولُ عليكم شهيداً)).
وليس رسولنا كالرسل، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، ولكن له مقاماً فذّاً، يقول جلّ وعزّ، بصيغة النفي والحصر لتوكيد التعميم: ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)).
فإذا فهمنا من العالَمَيْن عالمِ الغيب، وعالم الشهادة، انتقل بنا تفكيرنا، بالنسبة لعالَم الغيب، إلى النظر في قوله تعالى: ((وإذ صَرفْنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا: أنصتوا، فلما قُضي، ولَّوا إلى قومهم منذرين، قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى مُصدِّقاً لما بين يديه، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، يا قومَنا أجيبوا داعي الله، وآمِنُوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويُجرْكم من عذاب أليم)). وقد آمن به من الجن من آمن واهتدى، يقول سبحانه: ((قل أوحي إليّ أنه استمع نفرٌ من الجن فقالوا: إنّا سمعنا قرآناً عجباً، يهدي إلى الرشد، فآمنّا به ولن نُشرك بربنا أحداً)).
أما بالنسبة لعالم الشهادة، فالأمر واضح وحسبُنا أن نستشهد بقوله عزّ شأنه، بنفس صيغة النفي والحصر لتوكيد التعميم: ((وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً)) وتمتد هذه الرسالة في البلاد والعباد “كافة” لتشمل ناس الأرض جميعاً حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
كانت معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حسّيّة، وأدت مهمتها، بأمر الله في الأقوام التي بعثوا إليها، وبقيت ذكرى وتذكرة.
أما هذا القرآن “معجزة الإسلام” فقد تسامى فوق عوالم الحس وأغلاقها إلى عوالم الروح وآفاقها، فكان هديه باقياً نامياً، وكان إعجازه من الله سراً مستمراً، لا يفنى جديده، ولا تنقضي عجائبه، ولا يُخلِقُه طول العهد.
((والسماء ذاتِ الرجع، والأرض ذات الصدع، إنه لقول فصل، وما هو بالهزل)).
((ألر، كتابٌ أُحكمت آياته، ثم فُصِّلتْ من لدن حكيم خبير))
((قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض))
((… وإنه لَكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)).
والقرآن للإنسانية جمعاء – ما دامت في الوجود إنسانية – لتلتزم بنصوصه وتستهدي بهديه. أسس الله به الدعائم، وأحكم الأحكام، ثم ضرب الأمثال وصرّفها ليتذكر بها أُولوا الألباب فيسيرون فيما جدّ من حياتهم في ضوئها وعلى هداها.
((إنا أنزلنا عليك الكتابَ للناس بالحق))
((ولقد صرّفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل، وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً))
((ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون))
((وذكرى للمؤمنين))
((طس. تلك آيات القرآن وكتاب مبين، هدىً..))
((إن هو إلا ذكرٌ للعالمين ولتعلَمُنَّ نبأه بعد حين))

والقرآن كتاب داعية ودعوة، ونفير جهاد، وأمر تحرُّك وتخطيط:
فالدعوة والداعية:
((لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آياته ويُزكّيهم. ويُعلّمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين))
((ألر. كتابٌ أنزلناه إليك لتخرج الناسَ من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. اللهِ الذي له ما في السموات وما في الأرض((
((ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر))
((وبالحق أنزلناه وبالحق نزل. وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً))
وهنا “بالنذير” ينطلق الجهاد والنفير:
((وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين))
((… وتُنْذر به قوماً لُدّاً))
((… وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين…))
وأمر التحرك والتخطيط:
((…فارتقبْ إنهم مرتقبون..))
((إنا أنزلناه في ليلة مباركة، إنا كنا منذرين، فيها يُفرَق كل أمر حكيم))
((… قمْ فأنذِرْ…))
والقرآن، توطيد إيمان، على أساس من علم نفس الإنسان، حتى يَثْبُت القلب، وينطلق الركب، واثق الخطو، مستبشر الجنان، مطمئن اليقين في المسير وفي المصير:
((قل نزّله روحُ القُدُس من ربّك بالحق ليثبِّت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين))
((… قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء))
((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً))
((وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمةٌ للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا)).
والقرآن العظيم زجرٌ وتحدٍّ من الله القادر القاهر، للعبد المغرور الكافر المكابر:
((وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله، ولكن تصديقَ الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين)).
((قل لئن اجتمعتِ الإنس والجن، على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)).

وفي القرآن تمحيص للناس واختبار لإيمانهم وإسلامهم:
((هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات مُحكَمات هنّ أم الكتاب، وأُخَر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتّبعون ما تشابه منه، ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويلِه. وما يعلمُ تأويلَه إلا الله. والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌّ من عند ربنا، وما يذكر إلا أولوا الألباب((.
((أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً))
((أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها))…
ويا عجباً عجباً من أولئك القاسية قلوبهم، لا يخشعون ولا يتذكرون!
((في آذانهم وقْر، وهو عليهم عمى، أولئك ينادَون من مكان بعيد)).
((لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله))
أما المؤمنون الذاكرون فلهم مع القرآن خشوع ودموع، وخلوات وجلوات:
((الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعِرّ منه جلود الذين يخشَون ربّهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء)).
لقد أدرك “الاستعماريون” الدهاة، من شرقيين وغربيين، أثر القرآن هذا ورُكْنِيَّته في الأمة الإسلامية، وما يبعثه فيها من عزةٍ وقوة، وثقةٍ وتضامن وحكمة – ورأس الحكمة مخافة الله – فامتلؤوا غيظاً، وأخذتهم العزة بالإثم، وقدّروا أن أغراضهم الاستعمارية لا يمكن تحقيقها، إلا بإبعاد المسلمين عن قرآنهم، وتوهين ارتباطهم به، واتباعهم له، فمكروا وتآمروا، ورسموا الخطط الخفية الشيطانية ومَضَوا يحققون أغراضهم في مكر وعناد.
وهكذا، وعن طريق الاستيلاء على مرافق التعليم والإعلام، وبالإغراء والإغواء، وفي ظل تسلط الاستعمار وبغيه، وبجهود مؤسسات التبشير والاستشراق، استطاع أعداؤنا أن يشيعوا بين الناشئة شكوكاً حول الإسلام والقرآن، وأن يستعينوا في ذلك بمن ينصبونهم حكاماً من أبناء جلدتنا. ولا سيما في إشاعة الدعوة إلى القومية، والترويج لفصل الدين عن الدولة! وقد تطاول بعضهم فزعم أن القرآن كلام ذات الرسول، وليس وحياً إليه من ربه. وشايعهم في كل ذلك نفر من المأجورين أو المغرورين ، وإنها لشنشنة قديمة، وكيد عتيق، هتك الله ستره وفضح أمره:
((وإنك لتُلَقَّى القرآن من لدن حكيم عليم…))
((فلا أقسم بما تبصرون، وما لا تبصرون، إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر، قليلاً ما تؤمنون، ولا بقول كاهن، قليلاً ما تذكّرون، تنزيل من رب العالمين، ولو تقوَّل علينا بعضَ الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين، وإنه لتذكرة للمتقين، وإنا لنعلم أن منكم مكذبين، وإنه لحسرة على الكافرين، وإنه لحق اليقين، فسبّح باسم ربك العظيم))
… ونال أعداء الإسلام من أمته بعض ما يريدون.. ولكن إلى حين! فإن سرّ الله لا يُقهر، والروح التي غرسها بيده، لا تستطيع أن تقتلعها طواغيت الإنس والجن، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً!
وهكذا قامت الثورات والحروب في مختلف أوطان الأمة الإسلامية، وانتهى كثير منها إلى التحرر من ربقة الاستعمار الدخيل. ومما لا شك فيه أن “الإسلام” وما في روحه من رفض الذل والعبودية كان المحرك الأصيل لحروب التحرير هذه ولا سيما في “الجزائر” وبلاد شمال أفريقيا التي نطلق عليها اليوم “المغرب العربي الكبير” وإنها في الحق “المغرب الإسلامي الكبير”.
وقد وجد الاستعماريون أنفسهم مضطرين إلى مواجهة الواقع، ولكنهم لم يُسَلِّموا، بل عمدوا إلى أسلوب جديد فأحلّوا في خطتهم الجهنمية الاستثمار مكان الاستعمار، وتبدلوا غزو البلاد بالسلاح، بغزو العقول والنفوس والأذواق بمبادئهم الهدامة، ووسائلهم المغرية، وما فتئوا ينشرون التشكيك بالقيم الإسلامية ويعملون على أن يستبدلوا بها مفاهيمهم وقيمهم حتى يجرِّحوا بذلك تميّز الشخصية الإسلامية وتماسكها.
وإننا لنجد النهضة المباركة في بلاد العرب والمسلمين تتعرض أكثر فأكثر لضروب من التأثيرات، وتواجه أفانين من النظم والمذاهب تحيط بساحاتها الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتحاول أن تنفذ إليها، وقد التبست فيها وجوه الحق بالباطل والصواب بالخطأ. حتى أصبحت خطوات هذه النهضة وئيدة وئيدة، وقام في أمتنا من أبنائها، من يفرّق صفها ويزرع بينها الشكوك والشحناء والبغضاء. وقد بات على رجال الرعيل وقادة الجيل أن يتبينوا جيداً، مواقع الخطو، ويتثبتوا من اتجاه الطريق، لأن لهذه النهضة ما بعدها للأمة الإسلامية وللإنسانية جمعاء، فهي جديرة أن تستحق من العاملين المخلصين مزيداً من الوعي والعمق والتركيز، في كثير من التضامن والتعاون وإنكار الذات، والعاقبة للمتقين ((يُريدون أن يُطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله ولو كره المشركون)).
وبعد، فثمة أمر هام أخير خطير، يجب أن نلتفت إليه، ونتبين معالمه ومعانيه ومراميه، إنه ((قرآن عربي)).
يقول الله جلّت حكمته:
((وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً))
((… بلسان عربي مبين))
((… كتاب فُصّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون))
((إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون))
((… إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون))
((لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون))
((… وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تُسألون)).
من هنا، من ترديد الله العليم الحكيم للفظة “العربي” مقرونة بالكتاب واللسان، والحكم والقرآن: عربي… عربي… ما زال يحاول الاستعمار الجديد، والذين انخدعوا به أو استؤجروا من قِبَله، أن يثيروا النعرة القومية، عصبية جاهلية، يفرقون بها بين المسلمين، ويحلُّونها في حياتهم دعوة ونظاماً، بدل دعوة الإسلام ونظامه!.
وللقول هنا مجال طويل جليل، لا تتسع له العجالة، ولكننا نوجز:
أولاً: من هو العربي: روى ابن كثير عن معاذ بن جبل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “ألا إن العربية اللسان، ألا إن العربية اللسان”. وروى الحافظ ابن عساكر بسنده عن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم، وكان يخاطب جماعة من المسلمين عرباً وغير عرب: “ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلّم بالعربية فهو عربي”.
ثانياً: حب العرب: وقد وردت فيه آثار عدة نكتفي منها بالحديث المأثور المشهور: “أحبوا العرب لثلاث: أنّي عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي”.
رسول الإسلام عربي، فمن أحب العرب فبحبّه أحبّهم، والقرآن، كلام الله المجيد وكتاب الإسلام ودستوره، عربي، وهو عمود الهداية وركن الإسلام وبقاء المسلمين. فهو حبيب إليهم بالعقل كما هو حبيب إليهم بالعاطفة، ولا يتم حبه إلا بمعرفة أغواره وأسراره، ولا يتأتّى ذلك بغير إجادة لغته إقبالاً عليها من أعماق القلب، ودراية لها بأعماق العقل والفهم والعلم. وكلام أهل الجنة عربي، أفلا يهمنا في هذه الدنيا ترديده، نعيده ونجيده؟!
ثالثاً: الله واحد أحد، والإسلام دينه، دين التوحيد، والأمة الإسلامية المحمدية، رسولها واحد عربي، وكتابها واحد عربي، ولها كعبة واحدة في مكة العربية، ولكن كيانها وبنيانها من المسلمين كافة، أما رسالتها فللإنسانية جمعاء:
أجل، لقد بدأتْ من بلاد العرب، وانطلقت أول ما انطلقت على كواهل العرب الذين شاع ذكرهم بالإسلام، وجَلّ حكمهم بالإسلام، وعزّ جمعهم بالإسلام.
فالقرآن العربي، بالتعميم، للمسلمين جميعاً وللبشر كافة. وهو بالتخصيص ذكر لرسول الإسلام العربي، ولقومه العرب المسلمين وسوف يُسألون عن حمل هذه الأمانة المقدّسة، وحماية هذا الشرف العظيم، وهم مَدعُوُّون بالقرآن إلى حمل واجب هذا المقام الذي لم يكن لهم إلا بالإضافة إلى الإسلام فإذا تخلوا عن الإسلام زال ودال…
قالوا: العروبة، قلنا: إنها رحمٌ
وموطنٌ ومروءاتٌ ووجدانُ
أما العقيدة والهدْيُ المنير لنا
دربَ الحياةِ فإسلامٌ وقرآنُ
وشرعةٌ قد تآخت في سماحتها
وعدلها الفذّ أجناسٌ وألوانُ
قلبٌ من النور يُحيي جسم حامله
له جناحان: إيمان وإحسانُ
رسالةٌ ورسول جلّ ربهما
والدينُ أجدرُ من يرعاه ديّانُ
رابعاً وأخيراً، حكمة الله قضت، ورحمته ونعمته – وقد اختار للإنسانية رسالتها السماوية الأخيرة: “الإسلام” وجعل لها دستوراً خالداً: “القرآن” – أن تكون لها لغة واحدة، تتغير اللغات ولا تتغير، وتتحول الثقافات، وثقافتها باقية نامية ألا وهي “العربية” تجمع الأمة في بنيان، وتخاطب فيها الإيمان، بإعجاز القرآن، ما دام الزمان.
وأخيراً، ((ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبلُ فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون)).
((فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم، إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون، لا يمسّه إلا المطهّرون، تنزيل من رب العالمين)).
يا معشر المسلمين، وأحفاد الهداة الأُباة، يا دعاة الحق والإيمان والإحسان، سيقول لكم “أصحاب المذاهب” ليفتنوكم عن دينكم: “رجعيون” تدعون إلى أمر قد جاوزته القرون! قلة، أنتم في واد، والعالم كثير في واد آخر، فاتركوا ما تتمسكون به من حضارة دين السماء إلى حضارة الطين والماء، لتكونوا من “التقدميين” وتسايروا ركب “القرن العشرين”…
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ((وتمّت كلمة ربّك صدقاً وعدلاً، لا مبدّل لكلماته وهو السميع العليم، وإن تطع أكثر من في الأرض يُضِلُّوك عن سبيل الله، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون)).
الهولُ في دربي وفي هدفي
وأظلُّ أمضي غير مضطربِ
ما كنتُ من نفسي على خَوَرٍ
أو كنت من ربي على ريَبِ
ما في المنايا ما أحاذره
الله ملء القصد والأربِ
 

محمد عادل فارس