د. باسل الحاج جاسم
جاء قرار الرئيس الاميركي دونالد ترامب، في هذا التوقيت غير المتوقع بإعلانه سحب قواته من سورية، والذي بدوره أثار الكثير من الأسئلة، مع أنها لم تكن المرة الأولى التي يتحدث فيها عن انسحاب أميركي من سورية، إذ سبق وتحدث بذلك خلال حملته الانتخابية، وفي تغريدة على تويتر كرر هذا الأمر قبل أشهر.
لا يخفى على أحد أنه لم يكن هناك أي مؤشر على أن واشنطن تعمل على «استراتيجية خروج» من سورية، حتى ساعة اتخاذ قرار الانسحاب.
المسوغ الذي قدمه ترامب هو هزيمة «داعش» ، وبالتالي إمكانية عودة القوات الأميركية، إلى الوطن، بهذا التصريح، وجه ترامب رسالة مفادها بأن الوجود العسكري الأميركي في سورية كان متعلقاً فقط بتهديدات تنظيم «داعش»، مع أنه هناك في الولايات المتحدة ودول أخرى من يشكك.
كما أن هناك أسباب أخرى، سبق وتحدث عنها الأميركيون أنفسهم، حول أسباب الوجود العسكري الأميركي في سورية، كمواجهة إيران وكسر نفوذها، وحماية “إسرائيل”، إضافة إلى مسألة توازن القوى مع روسيا.
ليس سراً انتشار المجموعات والميليشيات الإيرانية، والتابعة لها في عموم الأراضي السورية، من درعا مروراً بحلب وحمص حتى دير الزور، إلا أنه خلال السنوات الماضية، لم نشهد أي تحرك أميركي لمواجهة أو كسر نفوذ إيران، وحدها “إسرائيل” بين الحين والآخر تستهدف بعض المواقع الإيرانية داخل سورية.
مع العلم أنه ساد تصور أن الولايات المتحدة حافظت حتى اليوم على قواتها في سورية، من أجل الأهداف المذكورة أعلاه، وإذا كانت هذه الفرضية صحيحة، فهل يعني اتخاذ الولايات المتحدة قرار الانسحاب، أن واشنطن تخلت أو تراجعت عن هذه الأهداف الاستراتيجية الأخرى طويلة الأمد؟
وكشفت وسائل إعلام أميركية عن استقالة المبعوث الأميركي للتحالف الدولي ضد تنظيم «داعش»، بريت ماكغورك، وفي وقت سابق أعلن ماكغورك أنه سيترك منصبه في فبراير/ شباط 2019، إلا أن وكالة «أسوشيتد برس» أشارت إلى أنه قرر تعجيل خطط مغادرته المنصب نهاية ديسمبر/كانون الأول الجاري احتجاجاً على قرار سحب القوات الأميركية من سورية.
«ربما تكون هذه الخطوة ضرباً من التصنع»، هكذا علق الرئيس الاميركي ترامب على استقالة ماكغورك، وأضاف أنه لا يعرفه، وأوباما هو من عينه.
الخلافات بين ترامب و ماكغورك عديدة، يكشفها وصف مسؤول كبير في الإدارة الأميركية، ماكغورك بأنه «مهندس الاتفاق الفاشل الذي توصل إليه أوباما مع إيران».
وسبق، قبل عام تحديداً، فتح المدعى العام في أنقرة، تحقيقاً في شأن ماكغورك، على خلفية مذكرة تقدمت بها منظمتان من منظمات المجتمع المدني التركية تطالبان فيها بتوقيف ماكغورك بسبب ما سميتاه تواطؤ مع «مجموعات إرهابية».
وسبب التحقيق والمذكرة، اعترافات طلال سلو الناطق المنشق عن «قوات سورية الديموقراطية» (قسد)، التي يشكل عمودها الفقري تنظيم «ب ي د» (حزب الاتحاد الديموقراطي) الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني «بي كي كي» المصنف إرهابياً في تركيا والـ «ناتو».
ومن ضمن ما اعترف به «سلو» الناطق السابق المنشق، أن كل الأفكار كانت توضع من قبل ماكغورك، فأثناء عمليات تحرير الرقة، طلب تشكيل قوة باسم التحالف العربي، مهمتها فقط استلام الأسلحة، وتم استلام كميات كبيرة من الأسلحة بالفعل، غير أنه لم يوزع على العرب والتركمان والسريان فعلياً سوى أسلحة خفيفة، التحالف حمل اسم العرب، وكانت مهمته التوقيع فقط.
وأشار سلو، الذي انشق عن «قسد» وسلَّم نفسه لتركيا، في مقابلة مع رويترز، إلى أن المبعوث الأميركي، بريت ماكغورك، كان مؤثراً جداً منذ البداية، فعندما تم الحديث عن تحرير منبج، اقترح أن نؤسس مجلساً عسكرياً للمدينة، غالبيته من العرب لإقناع الجانب التركي، وبهذا الشكل يتم خلق انطباع لدى الأتراك بأن أبناء منبج هم من حرروا المدينة، وشاهدنا المقترح نفسه في الرقة أيضاً، وعندما كان يقدم المقترحات، كان يقول:«علينا إقناع الجانب التركي»، مؤكداً ضرورة خلق صورة تفيد بأن العناصر على الأرض من العرب.
وفي نفس السياق، قالت منظمة العفو الدولية، في تقرير صدر في أواخر عام 2015، إن بعثتها لتقصي الحقائق في شمال سورية كشفت عن موجةٍ من عمليات التهجير القسري وتدمير المنازل، تُعد بمثابة جرائم حرب نفذتها الإدارة الذاتية بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي، الحزب الكردي السوري الذي يسيطر على المنطقة.
وقد زار باحثون من منظمة العفو الدولية 14 بلدة وقرية في محافظتي الحسكة والرقة، في يوليو/ تموز وأغسطس/ آب 2015، لتقصي عمليات التهجير القسري للسكان، وتدمير المنازل في المناطق الخاضعة لسيطرة «الإدارة الذاتية»، وتُظهر صور ملتقطة بالأقمار الاصطناعية، حصلت عليها «العفو الدولية» نطاق عمليات تدمير المنازل في قرية الحُسينية، وفي بلدة تل حميس، وتبين الصور 225 بناية، كانت قائمة في يونيو/ حزيران 2014، ولم يبق منها سوى 14 بناية في يونيو/ حزيران 2015، أي أن عدد المباني قد انخفض بنسبة مفزعة تصل إلى 93.8 في المئة.
وبات معروفاً للجميع دور ماكغورك المؤثر في تشكيل سياسة واشنطن في شمال سورية، خاصة دعمها لما تعرف قوات سوريا الديمقراطية (يشكل عمودها الفقري الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، المصنف إرهابياً في تركيا والناتو).
لا يخفى أن معظم مناطق شمال سورية وشرق الفرات عربية التاريخ والديموغرافيا، ويشكل العرب غالبية مطلقة هناك مع أقلياتٍ أخرى تنتشر في المنطقة كالأكراد والتركمان والآشوريين، ففي مدينة الرقة يشكل العرب أكثر من 90 في المئة، بينما تتجاوز النسبة في مدينة منبج 94 في المئة، مع ذلك، دعمت واشنطن هناك أقلية عرقية، وقامت بتهميش الأكثرية العربية تحت أكثر من حجة وذريعة، وتركتهم للتهجير، بحسب تقارير لمنظمة العفو الدولية، والتي وصفت ما تعرض له العرب بجرائم حرب.
أرادت واشنطن إسقاط الحالة الكردية في شمال العراق على أكراد سورية، من دون الأخذ بالاعتبار فروقاً كبيرة في الحالتين، وهي أنهم في سورية لا يمتلكون المقومات التي لدى نظرائهم شمال العراق، ديمغرافياً وجغرافياً، لذلك وجدنا عملية ترك مسار جنيف يراوح مكانه، بسبب رغبة الولايات المتحدة التعويل على عامل الوقت لخلق واقع جديد يجبر باقي الأطراف على التعامل معه.
كما أزعج مسار أستانا الأميركيين، لأنه بدا يحرك الرياح الراكدة في سورية سواء اتفقنا أو اختلفنا معه، كما أنه بدأ يوجه الأنظار نحو خطط واشنطن التي غضت الطرف عما يتعرض له العرب في مناطق هم أكثرية فيها من تهميش وتغيير لمناهجهم الدراسية وتجنيد إجباري، في إطار تغيير الواقع، وباتت واشنطن تتصرف على الحدود السورية وكأنها حدود الولايات المتحدة مع المكسيك، إلى أن جاء قرار ترامب بالانسحاب من هذا البلد.
مما لاشك فيه أن قرار ترامب يؤسس لمرحلة جديدة في سورية والمنطقة، وقد يحمل مفاجأت لجميع الأطراف، لكن الشي الهام، أن أكثر من طرف يستعد لملأ الفراغ الناجم عن الانسحاب الأميركي.
لكن الشيء المؤكد أن ترامب بقراره الانسحاب من سورية، وحتى لو كان القرار شكلياً، فهو يدفن بذلك إرث أوباما.
الحياة اللندنية