برهان غليون
لم يدهشني أبداً استئناف بعض الحكومات العربية، وعلى رأسها الإمارات المتحدة والبحرين، وربما قريباً حكومات أخرى، علاقاتها مع نظام الأسد، ولا احتمال مناقشة الحكومات العربية إعادته، في مستقبلٍ قريبٍ، إلى صفوفها في إطار جامعة الدول العربية، على الرغم مما كان قد وجّه لها جميعاً من اتهامات، وما قذفها به من نعوتٍ بذيئةٍ في الماضي، وما كانت قد أمطرته ونظامه به من أبشع صفات القتلة والمجرمين. ولن أستغرب أيضاً تراجع جامعة الدول العربية، الممثلة لهذه الحكومات، عن قراراتها السابقة التي برّرت بها تعليق عضوية سورية، طالما بقي نظام الأسد يقتل شعبه، وعن الشروط التي فرضتها عليه للعودة، والتي صاغت من أجلها أول مبادرة سياسية تبنتها المنظمة الدولية، من أجل انتقالٍ سياسيٍّ منظم، بمشاركة الحكم والمعارضة، على سبيل التسوية السياسية التي كانت تأمل منها أن تحول دون انزلاق سورية إلى الحرب الداخلية، وتحفظ لها ولشعبها الحد الأدنى من الوحدة والاستقرار، وتقيها من مخاطر الدمار السياسي والحضاري، وهي المبادرة التي عطلها الأسد، كما عطل مبادرات جميع المنظمات الدولية.
ليس لهذا التراجع العربي، في نظري، أي علاقة بالواقعية السياسية، فكما ذكرت أكثر من مرة، ليس من الواقعية أن تقبل الدول، حتى غير الديمقراطية وغير المؤمنة بحقوق الإنسان، إعادة تأهيل رئيسٍ لم يتردّد في قتل مئات الألوف من شعبه، وتهجير الملايين منه خارج البلاد وداخلها، واستصدار عشرات القوانين لشرعنة السطو على أملاكه، لحرمانه من العودة إلى بلده، توجد عليها جميعاً إثباتات دامغة، وتأكيد من جميع تقارير المنظمات الإنسانية العالمية. ولا تنبع لا واقعية ذلك مما تحمله هذه الوصفة من الحرب في جرح السوريين النازف، بدل السعي إلى تضميده، ولا ما تعمل عليه من تعميق مشاعر الضغينة والحقد وروح الانتقام عند أهالي الضحايا الذين لا تزال ذاكرتهم عامرةً بمشاهد العنف الوحشي الذي مورس على بناتهم وأبنائهم وإخوانهم فحسب، وإنما لأن العرب العائدين ينفخون في قربة مثقوبة، ويحيون جثةً هامدة، لن يجنوا من إنعاشها سوى البلاوي والأخطار، فقد انهار تماماً الأساس الذي قام عليه نظام الأسد بأكمله، وهو الخوف الذي رعته أجهزته وسياساته الانتقامية الدموية عقوداً، بعد أن فجر ثورة المظلومين والمقهورين، فأصبح الموت أرخص لديهم، وأفرج من الحياة، وربما سيصبح، أكثر فأكثر، سلاح هؤلاء الأمضى لبث الذعر في قلب نظامٍ لم يتقن غير سياسة القتل والعنف والكراهية والتمييز والإذلال.
يستطيع الأسد أن يزوّر التاريخ، وأن يكذب على نفسه وجمهوره، بالاستمرار في ادّعاء أن ما قام به هو حربٌ ضد الإرهاب والإرهابيين، وأنه فعل ذلك، كما بدأت أجهزة إعلامه تسرّب منذ الآن، حمايةً للشعب من “المؤامرة الكونية” التي انتصر فيها على 140 دولة وحكومة، أعلنت في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012 إدانتها سياسة الإبادة الجماعية التي مارسها الأسد، وتبنيها، ومن هذه الحكومات أغلبية الحكومات العربية، مطالب الشعب العادلة، لكنه لن يستطيع أن يقنع السوريين الذين عاشوا تجربة الموت، في أجسادهم وأجساد أطفالهم وأحفادهم وأمهاتهم وأخواتهم، ولا تزال آثار العنف الذي مورس عليهم تحفر في ذاكرتهم، وترسم ملامح وجوههم، بهذا الكذب والتزوير. ويحتاج الأسد الذي يعرف أنه قتل، ويعرف أن روح القتيل سوف تلاحقه أينما ذهب، إلى حارسٍ ورقيبٍ على كل سوري حي، حتى يضمن الأمن والاستقرار لحكمه. ولن تسعفه جماعات الحشد الشعبي الإيراني، أو الطائفي، لضمان ذلك، إن لم تضاعف من حجم الحقد ورغبة الانتقام التي تسكن قلوب ملايين السوريين، ما لم تتحقق العدالة، وينال القاتل جزاءه.
قلت لم يدهشني تطبيع بعض الحكومات العربية مع الأسد، فهي تشترك معه في أمرٍ كبيرٍ واحد، هو افتقارها أي مفهوم للدولة والقانون. وقبل ذلك الاحترام لشعوبها. وبالتالي، لمفهوم الحق الذي هو معيار تقدّم الحكومات الحديثة، ومكمن شرفها، فالعدالة ليست من سمات سياساتنا، نحن العرب، في هذا العصر الذي قام على مفهوم الحق والعدل والكرامة والمساواة والالتزام بالعهود والمواثيق والقرارات.
ونعتقد، أو بالأحرى يعتقد “زعماؤنا”، بالعكس، أن الحرية هي في التخفّف من أي التزاماتٍ قانونيةٍ أو أخلاقيةٍ أو سياسيةٍ تجاه الشعوب، والرهان على “صفقات القرن” الكبرى التي تجمعنا مع “الكبار” و”الأقوياء”، أي الأكثر قدرةً على خرق العهود والالتزامات، وتمزيقها في أي وقت. وربما هذا ما أوحى به الأسد، عندما غدر بشعبه، وخان التزاماته بصفته رئيسا أوتمن على مصير شعب، فلم يتردّد في التهديد بحرقه، ثم حرقه بالفعل، وخرّب عمرانه، وشرعن نهب أرزاقه وممتلكاته، وتقديمها هدية لمعاضديه ومناصريه ومؤيديه من الأجانب قبل السوريين، من أجل البقاء في الحكم.
لكن لعنة الأسد التي رافقت الرئيس السوداني عمر البشير من دمشق إلى الخرطوم، وقوّضت أركان نظامه، وسوف تطيحه لا محالة بعد وقت، ستلاحق كل من يسير في طريقه، ويقبل شرعنة الجريمة، والدوس على ذاكرة الضحايا، وتبييض وجه الخيانة والعار.
أعرف أن مصالح الدول قد تقتضي صرف النظر عن حقوق الأفراد، وأن التغييرات العسكرية في السنة الماضية قد مكّنت موسكو وطهران من إعادة وضع الأسد على السرج الممزّق من جديد، لكن حسابات الحكومات العربية ستكون متسرّعةً جداً، إذا اعتقدت أن النظام قد خرج منتصراً وكسب السباق. فلا يمكن لنظامٍ أن ينتصر ضد شعبه وعليه، لأنه لن يكون بعد ذلك نظام، وإنما عصابة قتلة، لا بديل لها عن الالتحاق بالقوى التي مكّنتها من ارتكاباتها، والعمل في خدمتها ولأجلها. خسر النظام نفسه، كما خسر “شعبه”، وتحوّل إلى عميلٍ للقوى التي ضمنت بقاءه، وغطّت على جرائمه. ولذلك، تخطئ الحكومات العربية أيضاً إذا اعتقدت أن عودتها إليه سوف تساعده على الخروج من أسر خصومها الإيرانيين، وتساعدها عليهم. فلم يعد لوجوده معنى ولا مضموناً، إلا من حيث هو أداة في يدهم. وبمقدار ما يقبل أن يكون سيفاً مسلّطاً على العرب بعد السوريين لخدمة مصالحهم. وتمديد حكمه لن يكون سوى تعزيز للاحتلال الإيراني.
قد يحلم بعض الخليجيين بأن تساعدهم خطوتهم الخاطئة هذه على كسب ود الروس، والاستفادة من صعود نجم موسكو، بعد أفول نجم الولايات المتحدة في المشرق، لضمان أمنهم. أو ربما فكّر بعضهم بأن الارتماء على الأسد سوف يمكّنهم من الضغط على أنقرة، وردعها عن دعم الإسلام السياسي الذي حولوه بأنفسهم إلى كابوسٍ يقض مضاجعهم، في الوقت الذي ترتع الأفاعي “الداعشية” في أقبية قصورهم المبنيّة من ورق.
للأسف، أقول لإخواني الخليجيين، الذين أعرفهم وأقدّر مخاوفهم وطموحاتهم أيضاً، إن أسوأ مرشد للعمل السيرُ وراء الأوهام والأهواء، وأنهم، بفتحهم باب إعادة تأهيل المجرم ونظام الجريمة في دمشق، كمن يوجه خنجره إلى صدره.
العربي الجديد