د. علي حسين باكير
عند كل منعطف مهم للأحداث في سوريا، يلجأ البعض إلى استحضار مفاهيم واتفاقات سابقة لتكون بمنزلة أرضيّة صالحة لتجاوز العقد البارزة في هذا الملف. من هذه الاتفاقات بروتوكول أضنة لعام ١٩٩٨ بين تركيا وسوريا الذي يتمحور بالدرجة الأولى حول مكافحة الإرهاب «حزب العمّال الكردستاني والمجموعات المرتبطة به». يعتقد عدد من الخبراء والمحللين أنّ هذا الاتفاق يتيح لتركيا تجاوز الخلاف الناشئ مع الولايات المتّحدة إزاء انسحاب قواتها من سوريا من جهة، كما أنّه يسمح بضمان تلبية المطالب التركية التي تهدف إلى حماية أمنها القومي وأمن الحدود من دون أن تضطر إلى اللجوء إلى تفاهمات جديدة مع النظام السوري. وما انفك محللون عرب وأتراك يشيرون إليه كمسوّغ لأي عمليات عسكرية تركية داخل الأراضي السورية، فضلاً عن الترويج لكونه من الحلول الوسطى المفضّلة لدى جميع الأطراف، فهل هو كذلك؟
عام ١٩٩٨ كانت تركيا على شفير حرب مع سوريا بسبب احتضان نظام الأسد الأب لزعيم حزب العمّال الكردستاني عبدالله أوجلان، ودعمها العمليات التي يقوم بها التنظيم ضد تركيا. ونتيجة لتجاهل السلطات السورية التحذيرات المستمرّة التي كان يطلقها الجانب التركي حول هذا الموضوع، قررت أنقرة حشد قواتها العسكرية على الحدود وتوجيه تحذير نهائي للنظام السوري. تدخّلت مصر وإيران آنذاك بالنيابة عن النظام السوري لإجراء وساطة مع السلطات التركية على أمل أن تتراجع عن شروطها، لكنّ النتيجة كانت اجتماعاً في أضنة بتاريخ ١٩ و٢٠ أكتوبر ١٩٩٨ أذعن فيه النظام السوري في نهايته لجميع المطالب التركية.
* مجموعة التزامات
يشير مضمون الاتفاق إلى تعرّض نظام الأسد لإذلال غير مسبوق، وقد وصف كثيرون من بينهم رئيس الجمهورية في حينه سليمان ديميريل هذا الاتفاق بأنّه أكبر انتصار دبلوماسي لتركيا خلال ٢٥ عاماً من تاريخيه. وبخلاف ما يتم الترويج له حول هذا البروتوكول، لا فقرات أو مواد سريّة فيه بحسب ما أكّده وزير الخارجية آنذاك إسماعيل جيم، وهو في مجمله مجموعة التزامات من قبل النظام السوري بمحاربة حزب العمّال الكردستاني، تم التوصّل إليها نتيجة للضغط التركي والتهديد بشن حرب على الدولة السورية إذا ما لم تتراجع عن إيوائها أوجلان ودعهما لعمليات الحزب ضد تركيا.
وبحسب محضر الاتفاق، فإن النظام السوري تعهّد بالامتناع عن كل نشاطاته السابقة في دعم «العمال الكردستاني» بالسلاح والمال وبالدعم اللوجستي والبروباغندا، كما تعهّد بالاعتراف بأنه حزب إرهابي وسيعمل على منع كل نشاطاته ونشاطات المجموعات المرتبطة به على أراضيه، وسيمتنع عن أي عمل من شأنه أن يقوّض الأمن القومي التركي انطلاقاً من الأراضي السورية. ويشير الاتفاق إلى التزام نظام الأسد بألا تكون سوريا ممراً أو مستقراً لهذه الميليشيات بعد الآن، وأنّه سيعطي التعليمات بمنع زعيم «الكردستاني» من دخول أراضيه «بعد أن قامت السلطات بإخراجه من سوريا». ونص الاتفاق على إنشاء آلية فعّالة وشفافة لتطبيق ما جرى التوصل إليه من خلال التواصل المباشر عبر الخط الساخن والمبعوثين الخاصين وإنشاء آلية مراقبة أمنية، إضافة إلى عناصر أخرى من بينها إشراك لبنان في آلية ثلاثية لمحاربة حزب العمّال.
* المطالب التركية
إعادة تطبيق هذا الاتفاق اليوم، تفترض إعادة طرحه هذه المرّة من قبل السلطات السورية وليس التركيّة، فأنقرة غير مهتمّة بالتواصل المباشر مع نظام الأسد كما أكّدت علناً أكثر من مرّة، وأي التزامات متعلقة بهذا النظام غالباً ما يناقشها الجانب التركي مع روسيا كما أكّد الرئيس أردوغان في أكثر من محطّة. ويتجاهل كثير من المحللين ممن يستحضرون نص هذا الاتفاق اليوم إلى أنّ تطبيقه يحتاج أن يلتزم نظام الأسد بقتال ميليشيات «بي واي دي» الكردية، وهو أمر مستحيل في ظل القوات الأميركية، ويتطلب تمتّع النظام بالقدرة على اقتلاع التنظيم بعد رحيل القوات الأميركية. وعدا عن كون مثل هذا الأمر مشكوكاً به أولاً، فإنّه لا مصلحة لنظام الأسد بالقيام به في هذه المرحلة بالتحديد، خاصة إذا كان ذلك سيؤدي إلى استنزافه.
لكن مع افتراض أنّ نظام الأسد سيلجأ في وقت ما إلى محاولة إحياء هذه الورقة -ورقة اتفاق أضنة- لتحييد دور تركيا في العمق السوري والتطبيع مع السلطات التركية، فإنّ المسؤولين الأتراك لا يثقون به حتى يولوا أمنهم وأمن حدودهم له عند أوّل فرصة ممكنة. فقد سبق لنظام الأسد أنّ استخدم هذه الميليشيات قبل الثورة وبعدها ضد تركيا، ولا شيء يمنعه مستقبلاً من استخدامها مجدداً حتى لو قرر محاربتها في وقت من الأوقات. إلى جانب ذلك، سيكون من الصعب التعويل على ضمانات غير موثوق بها من قبل لاعبين آخرين إقليميين أو دوليين إلا إذا تمّ هذا الأمر ضمن صفقة أكبر تشمل أخذ جميع المطالب التركية في الملف السوري بعين الاعتبار.
وإذا ما سلّمنا جدلاً مرّة أخرى أنّ تطبيق مثل هذا الاتفاق سيحلُّ معضلة أمنيّة تتعلق بالميليشيات الكردية، فإن ذلك لن يكون كافياً بالنسبة إلى الجانب التركي الذي يريد أن يعيد اللاجئين إلى أراضيهم في شمالي سوريا وبقية المناطق السورية، ومثل هذا الأمر لا يمكن أن يتم دون حالة استقرار وأمان، وهو الأمر الذي لن يشعر به العائدون في حال كان نظام الأسد سيسيطر مجدداً على هذه المناطق، فضلاً عن بحث تركيا عن حل دائم للأزمة السورية برمّتها.
وبخلاف ما يتم الترويج له، فإن نص محضر الاتفاق لا يشير إلى أي شيء يتعلق بتحديد مساحة في ما يتعلق بإمكان دخول القوات التركية إلى العمق السوري كأن تكون ٥ كلم، أو ١٥ كلم، أو ٣٥ كلم. حماية تركيا لنفسها عبر تدابير أمنية أو تدخل عسكري تنبع أساساً من حق أنقرة –ضمن شروط معيّنة- في الدفاع عن نفسها وفق القانون الدولي وميثاق الأمم المتّحدة -المادة الـ٥١- خاصة إذا ما فشلت سلطات البلد المعني -في هذه الحالة سوريا- بتأمين الحدود ومنع استخدام أراضيها منطلقاً للهجمات على تركيا، وهو الأمر الحاصل منذ أكثر من سبع سنوات.
ولهذا السبب، فإن الجانب التركي يفضّل أن يضمن أمنه بنفسه من خلال العمليات العسكرية التي أطلقها أو تلك التي ينوي إطلاقها في الشمال السوري والتي ستتحول على ما يبدو واقعاً قريباً ما لم تتوصّل أنقرة إلى اتفاق مع الولايات المتّحدة وروسيا وتحصل على ضمانات تؤمّن لها تحقيق أهدافها خلال المرحلة المقبلة.
القبس الألكتروني