يامن الأتاسي
الحرب لا تجري على أجهزة الآيباد وشاشات الرصد العملاقة، ولن يحسمها ضابط روسي من مكتبه في قاعدة حميميم ومَن خلفه مِن شبان مهوسيين بالشبكات والرصد و”الهاكرز”، هذه الصواريخ الذكيّة (حصدت أرواح عشرات آلاف الأبرياء) وما يلحقها من تقنيات لم ولن تحول الحرب إلى لعبة إلكترونيّة تسدد فيها “الضربات الخارقة” ويقضى فيها على الخصم، وتنتهي اللعبة بفوزك، هذا وهم. كل هذه التقنيات والتكتيكات، والاستراتيجيّات المرسومة، لا بدّ وأن تختبر في الميدان، وما رسم على الورق، سيلقى في أول سلة مهملات موضوعة في الطريق إلى ساحة المعركة الحقيقيّة.
المعركة هي الاختبار الحقيقي، وفيها تدفع الأثمان دماً، ولا شيء يعلو فيها عن الرجال القابضين على الزناد والمتمترسين في الخنادق والآليات، حاجج “كلاوزفيتز” من قبل، أن “الحرب ليست علماً”، ولن تكون الحسابات المسبقة، مسلمات وبدهيات، ذلك أن العامل البشري، وعقيدة المحارب، والقابليّة للتضحية والاستشهاد، عوامل لا يمكن تجاوزها، وعليه فإن من يحشد الرجال ويزرع العقائد، ويؤمن أن هناك شيئاً أكثر سلامة من حياة الذل، وأن هذه الحرب هي ما تعطي للحياة معنى، ويستثمر ذلك كما يجب في ساحات المعارك، هو من ينتصر في نهائية الأمر، يقول سيد قطب “رحمه الله”: “إن حسابات الربح والخسارة تصلح للتجارة، ولكنها لا تصلح للعقيدة، فالعقيدة حق يعتنق لذاته”، هذه القاعدة الذهبيّة أو قل عقيدة الثائر المسلم وخياراته (إحدى الحسنيين)، تبقى عصيّة على الفهم والهضم في النسق العلمانيّ الغربيّ.
المهزومون الذين شرعنوا الاحتلال الروسيّ، تخيّل أنهم أصحاب “سيادة” في إدلب، أي أنهم يملكون حق تحديد الصديق-العدو وقرار الحرب والسلم، فهل سيختارون خيار الحرب ضد روسيا وإيران، وجعل إدلب منصة انطلاق للعمل الثوريّ المسلح وقاعدة آمنة لانطلاق الثوار في مهاجمة أوكار الاحتلال الإيراني والروسي وتسيير الطائرات عن بعد لضرب قاعدة حميميم، أم سيختارون التواصل الطوعي مع قاعدة حميميم وتسليم مواقع “إحداثيات” معاقل الثوار لقصفها، وتجهيز أنفسهم للمشاركة الفاعلة في “مكافحة الإرهاب”، والاندماج مع مؤسسات الدولة البراميليّة التي “ثاروا” عليها، بلا تردد سيختار هؤلاء المهزومون الخيار الثاني، وسيكونون خنجراً مسموماً في خاصرة الثورة وحاملها المجتمعيّ، وجزءاً من محور الثورات المضادة عدو المنطقة وشعوبها وقضاياها.
أولئك الذين حاربوا “الهيئة” والفصائل الثورية الإسلاميّة “حرصاً” على “نقاء” الخطاب الثوريّ، لا بد لهم من مراجعة خطابهم بعد كل ما جرى، الافتراق الذي حصل بين الشعارات وبين الواقع، بين رومانسيّة الربيع وشتاء المعارك، بين الشربجي الذي خرج حاملاً الورد وبين الشربجي وعشرات الآلاف الذين أعادوهم لك جثثاً هامدة تحت التعذيب.
لو تأملت قليلاً ستجد أن أغلب الثوار “المزعومين” المتمسكين بالخطاب المثاليّ أصبحوا ينطلقون ويروجون خطابهم “المنمق” من منصة إعلاميّة يديرها مراسل سابق لقناة المنار التابعة لمليشيا “حزب الله”، ويا للمفارقة!
هؤلاء حرفياً، ليسوا أبناء ثورة ولا أصحاب قضية، إنهم “يعملون في الثورة”، وقضيتهم البقاء داخل شبكة المنافع والرواتب والعلاقات، ولو أن أحد هؤلاء نزل إلى المناطق المحررة التي يدعيّ تمثيلها، لما جلس فيها إلا بضعة أيام، ولما وجد من يتفاعل معه، بل قد لا يجد في كل المناطق المحررة بطولها وعرضها شخصاً واحداً يعرفه، حرفيًّا؛ سيقضي وقته يلتقط الصور، ويجمعها ذخيرة لحساباته على مواقع التواصل الاجتماعيّ، ليخرج بعد زمان ويحدثنا عن أمجاده وبطولاته.
ختاماً، مجرّد وجود شخصيات مدعومة روسياً في قلب المعادلة السياسيّة السورية بصفتهم “معارضين”، وتسلم مراسل سابق لمليشيا “حزب الله” إدارة قناة يُفترض أنها تمثل السوريين وتطلعاتهم للحرية والديمقراطية، تذكير دائمٌ لنا بأنه لا توجد مقاييس من أي نوع في المعادلة السورية، وأنه من الغباء المطلق أن يحترم ما تبقى من ثوار الأرض أيًّا من قواعد اللعبة وقوانينها، وتذكر دائماً أن السفيه والذليل سوف يعرض عليك “التصالح” مع النظام مباشرة، أما العميل والخائن هو من سيخبرك أن روسيا أو إيران “غير” (بحسب موقعه من شبكات المنافع والتمويل) وأن الدولة التي ترعاه ليست احتلالاً، وأنه في وسعنا استغلال الخلاف بينها وبين الأطراف الأخرى لصالحنا، واستغلالها ضد النظام أيضاً لو كنا “أذكياء”!
ترك برس