الإخوان المسلمون في سورية

الأبعاد الاستراتيجية للعملية العسكرية التركية في شرق الفرات

محمود عثمان

 

على نحو بدا للكثيرين مفاجئاً، أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان عن إطلاق عملية عسكرية في مناطق منبج وشرق الفرات، هدفها قطع الطريق على مليشيات بي كا كا / بي ي د الانفصالية الارهابية، التي أضحت قاب قوسين أو أدنى من تأسيس كيانها الانفصالي المستقل في المناطق التي سيطرت عليها بدعم أمريكي، شرقي وشمال شرقي سورية.

 

عمليات الدعم والتسليح والتدريب التي تقدمها واشنطن لميليشيات بي كا كا / ي ب ج الانفصالية الارهابية، تعدت حدود الحرب على تنظيم إرهابي مطارد هنا وهناك، حيث بلغت الأسلحة والمعدات التي قدمها الأمريكان حمولة آلاف الشاحنات وطائرات الشحن العسكرية، بما يكفي لتسليح جيش بكامل العتاد والعدة، وبمختلف الأسلحة من الثقيل إلى المتوسط إلى الخفيف.

 

الرئيس رجب طيب أردوغان تحدث بعبارات واضحة عن أدلة ملموسة مسجلة، تملكها الدولة التركية، تشير إلى توظيف التحالف الدولي لتنظيم داعش وحمايته لبعض قادة التنظيم، بدل هزيمته والقضاء عليه، وهذا يفند مقولة الأمريكان بأنهم باقون في الأراضي السورية من أجل محاربة الارهاب، إلى حين القضاء على تنظيم داعش كلياً.

 

ذريعة الأمريكان الأخرى هي إخراج إيران من سورية.. لكن، ما عدا الضربات “الإسرائيلية” لبعض المواقع الإيرانية الحساسة، التي تتعدى حدودها بين الفينة والأخرى، فلم نر حتى الآن جهوداً أمريكية حقيقية بهذا المضمار. وها هي الميليشيات الإيرانية منتشرة في جميع الجغرافيا السورية من درعا والسويداء إلى حلب وحماة وريف إدلب.

 

برغم اتساع مساحة الانتشار الإيراني، إلا أنه لم يحدث أن قام الأمريكان بعرقلة تحركات الميليشيات الإيرانية فضلاً عن استهدافهم، سوى صد الهجوم على قاعدة التي فور T4 العسكرية، الذي نفذته تلك الميليشيات بالتعاون مع مليشيات مرتزقة روسية، حيث قامت القوات الأمريكية بإبادة القوات المهاجمة بشكل كامل.

 

تعلم واشنطن وبروكسل أن ما يسمى بقوات سورية الديمقراطية “قسد” ما هي إلا ميليشيات تنظيم بي كا كا المصنف كمنظمة إرهابية عندهم. هذا ما صرح به ضباط أمريكان لطلال سلو عندما كان ناطقاً رسمياً باسم تلك القوات قبل أن ينشق عنها.

 

رغم هذه الحقيقة الدامغة فإن واشنطن ماضية في تدريب وتأهيل وتسليح هذه الميليشيات في الحسكة داخل سورية، وفي شمال العراق على شكل قوات كوماندوز خاصة.

 

تمضي واشنطن قدماً في دعم هذه الميليشيات التي ارتكبت جرائم التهجير القسري، والتغيير الديمغرافي في مناطق سيطرتها. هناك ملايين السكان العرب والتركمان وغيرهم تم تهجيرهم قسراً وهدم منازلهم. بل إن هناك قرى ومزارع ومنازل لم يعد لها وجود على الخريطة. كل هذا تحت مرأى ومسمع القوات الأمريكية والتحالف الدولي. وقد وثقت منظمة العفو الدولية في تقاريرها الآلاف من حالات التهجير القسري.

 

* الأهمية الاستراتيجية لمنطقة شرق الفرات

 

بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، تمكنت ميليشيات ي ب ج التابع لمنظومة بي كا كا الإرهابية عام 2014 من السيطرة على مناطق شرق الفرات وأجزاء من غربي النهر، تحت غطاء “قوات سوريا الديمقراطية”، فيما لا يزال نظام الأسد يحتفظ بمربعين أمنيين في مدينتَي القامشلي والحسكة، وأجزاء من ريف المحافظة.

 

وتُعد منطقة شرق الفرات “سوريا المفيدة” لاحتوائها على الثروات المائية والزراعية، إضافة إلى حقول النفط والغاز الطبيعي، وهو ما جعل الولايات المتحدة تضع يدها عليها، علاوة على موقعها الاستراتيجي الذي يمكّن واشنطن من التمركز وسط منطقة الشرق الأوسط، قريباً من دوله الرئيسية، تركيا والعراق وإيران والخليج العربي، وتأمين حماية إضافية ل”إسرائيل”.

 

بعد اختيارها من طرف واشنطن شريكاً استراتيجياً فيما سمي بالحرب على الإرهاب، باتت ميلشيات “قسد” الذراع البرية لواشنطن في المنطقة، وهو ما فتح الطريق أمامها للمضي قدماً وراء تحقيق حلم الانفصاليين الأكراد بإنشاء إقليم / دويلة ذات صبغة إثنية، بعد سلسلة من عمليات التطهير العرقي والتغيير الديمغرافي التي مارسته تلك القوات ضد المكونات الأخرى من عرب وتركمان وسريان وآشوريين، وحتى ضد الأكراد الذين يرفضون الفكر الأوجلاني الانفصالي.

 

* الأمريكان يخلفون وعودهم في كل مرة

 

من الواضح أن صبر أنقرة أوشك على النفاذ حيال أسلوب المماطلات المستمرة والنكوص على العهود وعدم تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه.

 

نائب الرئيس الأمريكي السابق وعد بالعمل مع تركيا على إنشاء مناطق آمنة في سورية ووقع بيد على اتفاقية بهذا الخصوص، وهو نفسه ومعه وزير الدفاع آنذاك تعهدا بألا تجتاز ميليشيات “قسد” نهر الفرات إلى ضفته الغربية، لكنها اجتازت النهر واحتلت منبج وتل رفعت رغم التحذيرات التركية. ثم وعد الأمريكان بإخراج هذه الميليشيات من منبج لكن وفق جدول زمني، بحيث تشرف قوات تركية أمريكية مشتركة على عملية خروجهم. لكن بدل الخروج وتطبيق الاتفاق، أخذت تلك الميليشيات تحفر الأنفاق وتقيم التحصينات.

 

أثناء المحادثات الأخيرة مع المبعوث الأميركي لسورية جيمس جيفري في أنقرة، رفض الطرف الأمريكي طلب الأتراك بالتخلي عن نقاط المراقبة الحدودية، وأبدوا موقفاً متصلباً حيال ذلك. لكن القطرة التي فاض بها الكأس، كانت تصريح السفير جيمس جيفري، بأن الحضور العسكري الأميركي سوف يستمر، وأن من المحتمل أن تطبق واشنطن في شرق الفرات ما طبقته من قبل في شمال العراق، بما يعني تدابير أمنية وعسكرية بينها إعلان المنطقة بقعة حظر جوي والتدخل العسكري المباشر للدفاع عن حلفائها عند الضرورة.

 

* الضوء الأخضر من الرئيس ترامب

 

خلال المكالمة الهاتفية بين الرئيسين أردوغان و ترامب، أبدى الرئيس الأمريكي تفهماً لمساعي تركيا في الحفاظ على أمنها الاستراتيجي.

 

المبعوث الأميركي لسورية جيمس جيفري قال في كلمته أمام حلف الناتو، إن قوات سورية الديمقراطية شريكة للولايات المتحدة والتحالف الدولي في الحرب على تنظيم داعش الارهابي. أي أن الشراكة بين الطرفين تنتهي هذا الحد، وبالتالي لن تتدخل القوات الأمريكية ضد القوات التركية حال قيامها بعمل عسكري شرق الفرات.

 

* موسكو ترحب ضمنياً بالعملية العسكرية التركية في شرق الفرات

 

لن يتردد الرئيس الروسي فلادمير بوتين في دعم وتشجيع أنقرة على القيام بعملية عسكرية في منبج وشرق الفرات، بهدف إضعاف النفوذ الأميركي في سورية، ولزيادة حدة الخلافات الأميركية – التركية، ولأجل المزيد من التقرّب التركي نحو موسكو، بما يصب ذلك كله لصالح الاستراتيجية الروسية في سورية والشرق الأوسط. لكن على الرغم من هذا المخطط الروسي الواضح، فإن تركيا بحكم موقعها الجغرافي هي المستفيد الأكبر من التنافس الروسي – الأميركي، إذ يتيح لها هذا الموقع توظيف الخلافات السياسية بين موسكو وواشنطن بفرض نفسها كلاعب أساسي لا يمكن تجاوزه أو الاستغناء عنه في أية طبخة سياسية تخص المنطقة، وهو ما يمكن أنقرة من الحصول على موافقة ضمنية من هذا الطرف أو ذاك على شكل صفقة سياسية قائمة لحظة البدء بأي عملية عسكرية في منبج وشرق الفرات.

 

* عملية شرق الفرات ضرورة استراتيجية بالنسبة لتركيا

 

قبل الشروع في الحديث عن البعد الاستراتيجي للعملية العسكرية التركية شرق الفرات، دعونا نوجه هذا السؤال: هل كان الحديث عن سورية موحدة ممكناً لولا عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون؟

 

لنفترض أن الجيش التركي وقف متفرجاً على الجهة الأخرى من الحدود، ولم يحرك ساكناً، كما يريد البعض ممن انتفخ حسهم الوطني فجأة، وترك ميليشيات بي كا كا تسرح في الشمال السوري، ولم يقم بعمليتي درع الفرات وغصن الزيتون. ماذا سيكون عليه الحال الآن؟

 

السيناريو الأقوى وربما يكون الأوحد، أن يبقى تنظيم داعش محتفظاً بمدينة الباب وما حولها، لكي يكسب الأمريكان وحلفاؤهم ميليشيات بي كا كا / ب ي د الانفصالية شرعية وجودهم وعملياتهم، مقابل أن تتمكن قوات قسد بدعم أمريكي من السيطرة على كامل الشمال السوري وصولاً للبحر المتوسط. بذلك تكون دويلة عبد الله أوجلان “روج آفا” في سورية قد أصبحت أمراً واقعاً.

 

اليوم يتكرر السيناريو نفسه في منطقة شرق الفرات. فقد تحول جبل سنجار إلى “جبل قنديل” ثان، حيث بات يشكل معقلاً حصيناً لقيادة الميليشيات الانفصالية التي تنطلق منها أفواج الإرهابيين.

 

اليوم وصلت ميليشيات بي كا كا / ي ب ج الانفصالية الارهابية مرحلة تأسيس الدويلة الأوجلانية، التي تعني “إسرائيل” ثانية. فإما أن يتم ايقافها، ووأدها في مهدها، أو أنها ستتحول إلى إسفين يهدد ليس وحدة سورية وحسب، بل جميع دول المنطقة دون استثناء.

 

ما يثير الدهشة والغرابة معاً أن بعض الدول العربية لا تخفي دعمها لهذا المشروع الانفصالي الخطير المدمر. إذ يكفي بالنسبة لها أنه ضد أردوغان، حتى لو ساهم في تمزيق دولة شقيقة!.

 

صحيح أن العملية العسكرية التركية في شرق الفرات ضرورة استراتيجية بالنسبة لتركيا، لكنها في الوقت ذاته صمام أمام لوحدة سورية مستقبلاً.

 

الأناضول

إخوان سورية