الإخوان المسلمون في سورية

الاضطراب المحيط بقرار الانسحاب الأمريكي من سوريا

بشير نافع

 

لم يكن من الغريب أن يثير قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب (20 كانون الأول/ ديسمبر)، بالانسحاب العسكري من سوريا؛ ردود فعل متباينة، داخل الولايات المتحدة وخارجها. كان ترامب أعلن رغبته بالخروج من سوريا (وحتى من أفغانستان) أثناء حملته الانتخابية، وعاد للمسألة نفسها في مطلع 2018، قبل أن تقنعه قيادات إدارته، لا سيما في وزارة الدفاع، بتأجيل القرار. ولكن ترامب، في ظل الضغوط المتزايدة من التحقيقات حول علاقته بروسيا، أصبح أكثر حرصاً على إرضاء كتلته التصويتية الصلبة؛ بالإصرار على تنفيذ وعوده الانتخابية ذات الصبغة القومية الضيقة. وهذا ما أعاد مسائل، مثل الانسحاب من سوريا وإقامة الجدار الفاصل على الحدود مع المكسيك، إلى صدر أولوياته السياسية.

 

وربما كان للمكالمات التي أجراها الرئيس الأمريكي مع نظيره التركي؛ دور ما في دفع الأول لاتخاذ قرار الانسحاب، لا سيما بعد أن أعلنت أنقرة منذ 10 كانون الأول/ ديسمبر؛ عزمها تعهد حملة عسكرية للتعامل مع التجمعات المسلحة لقوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، الذي تنظر إليه تركيا باعتباره مجرد فرع لحزب العمال الإرهابي. ولكن التحرك التركي على الحدود السورية والاتصالات بين أردوغان وترامب كانت مجرد مناسبة لقرار الانسحاب، وليست السبب الجوهري له.

 

كما أن أوباما، لا يرى ترامب أن سوريا منطقة حيوية للمصالح الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، وبما أن القوات الأمريكية أرسلت لمواجهة توسع داعش في سوريا والعراق، فمن المنطقي سحب هذه القوات عندما تنتهي مهمتها. وداعش، من وجهة نظر ترامب، دحر بالفعل، ولم يعد يمثل خطراً على الولايات المتحدة، أو مصالحها في الشرق الأوسط.

 

بيد أن الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، من وجهة نظر دوائر الدولة والسياسة الخارجية في واشنطن، لم يكن بالبساطة التي ينظر إليها ترامب للأمور. في وزارة الدفاع الأمريكية، لم يكن هناك يقيناً بعد أن مهمة القضاء على داعش قد أنجزت بعد. وفي وزارة الخارجية، كما في مجلس الأمن القومي، ثمة من ينظر إلى استمرار الوجود العسكري في سوريا أداة فعالة لمواجهة إيران، ومنعها من تأمين خطوط إمدادها عبر العراق والشرق السوري، وصولاً إلى ساحل المتوسط. ولا يعتبر النفوذ الإيراني المتسع في سوريا مصدر قلق أمريكي وحسب، بل و”إسرائيلياً” وخليجياً كذلك.

 

إضافة إلى هذا كله، هناك مصير الحلفاء الأكراد من مسلحي حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، التي اتخذتها الولايات المتحدة، منذ 2015، حليفاً وأداة محلية لقتال داعش. وقد رأى كثيرون في واشنطن أن قرار الرئيس المفاجئ يمثل خيانة للأكراد؛ وأن سحب القوات الأمريكية من سوريا سيترك الأكراد لقمة سائغة لتركيا، من جهة، والنظام السوري، من جهة أخرى.

 

خلال الأسابيع القليلة التالية على إعلان ترامب قرار الخروج من سوريا، تعرض الرئيس الأمريكي لضغوط متباينة للتخلي عن قرار الانسحاب كلية، أو تبني جدول انسحاب طويل المدى. وهذا ما أدى لولادة فكرة البقاء في منطقة التنف، جنوب شرقي سوريا، وبدء البحث عن وسائل لحماية الحلفاء من المسلحين الأكراد. ولكن مهمة مستشار الرئيس للأمن القومي، جون بولتون، في أنقرة، لم تفلح في إقناع الأتراك بالتخلي عن عملية شرق الفرات ومهاجمة المسلحين الأكراد. وهذا، أيضاً، ما دفع موسكو إلى التشكيك بجدية قرار الانسحاب الأمريكي.

 

فجر يوم 14 كانون الثاني/ يناير، فاجأ ترامب الجميع بتغريدة صادمة قال فيها إن الولايات المتحدة ستقوم بسحق الاقتصاد التركي إن هاجمت تركيا الأكراد في سوريا، بالرغم من أن تصور ترامب المبكر للانسحاب تضمن تسليم شرق الفرات لتركيا، وقيام القوات التركية بالتعامل مع ما تبقى من جيوب داعش في الشرق السوري. ولكن، وخلال ساعات فقط، وبعد اتصال هاتفي بين أردوغان وترامب، عاد الأخير إلى لغة التعاون مع تركيا، طارحاً فكرة المنطقة العازلة على الجانب السوري من الحدود مع تركيا، بهدف الاستجابة للمخاوف التركية الأمنية، من جهة، وحماية الحلفاء المسلحين الأكراد، من جهة أخرى.

 

فإلى أين وصل مشروع الانسحاب الأمريكي بالغ الاضطراب؟ وكيف تبدو فرصة تنفيذ العملية التركية شرق الفرات؟

 

المسألة التي تبدو واضحة بصورة كافية؛ أن الولايات المتحدة ستقوم بالفعل بسحب قواتها من سوريا، ولكن ربما ليس بصورة كاملة، وليس بالسرعة التي تصورها ترامب في البداية. وقع الرئيس بالفعل قرار الانسحاب؛ وما لم يطرأ أمر ليس في الحسبان، فالأرجح أن أغلب القوات الأمريكية سيكون قد غادر سوريا مع بداية الصيف المقبل، أو ربما حتى قبل ذلك. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن القوات التركية ستحل محل الأمريكية المنسحبة، أو أن شرق الفرات سيصبح ساحة متاحة لعمليات الجيش التركي.

 

أعلنت أنقرة عزمها تنفيذ عملية واسعة شرق الفرات، وبدأت حشد القوات على الجانب التركي من الحدود، في وقت مبكر من كانون الأول/ ديسمبر، قبل أن تؤمن الشروط السياسية الضرورية لتنفيذ العملية. والواضح، أن القيادة التركية حاولت بذلك وضع الأطراف المعنية بالشأن السوري أمام الأمر الواقع، تماماً كما فعلت في عملية عفرين. بمعنى، التحرك، بعد اتخاذ خطوات عسكرية ملموسة، نحو التفاوض على حدود وطبيعة العملية وليس حول تنفيذها. المشكلة، أن وضع شرق الفرات أكثر تعقيداً بكثير من منطقة عفرين، وأن العملية شرق الفرات تتعلق ليس بالروس وحسب، ولكن بالأمريكيين أيضاً، إضافة إلى نظام دمشق وحلفائه في إيران.

 

ليس من الواضح بعد ما إن كانت موسكو وافقت على أن تحل القوات التركية محل الأمريكية، إن سحبت الأخيرة كلياً من شرق الفرات؛ ولا مدى ما ستقوم به موسكو من ضغط على النظام في حال عبرت القوات التركية الحدود بالفعل. ولأن ثمة احتمالاً يزداد قوة بأن الجماعات الكردية المسلحة قد تذهب إلى عقد اتفاق مع النظام، يشمل تسليم مناطق سيطرتها لقواته، هرباً من مواجهة معروفة النتائج مع القوات التركية، فقد تجد أنقرة نفسها أمام متغيرات متسارعة في شرق الفرات حتى قبل الانسحاب الأمريكي من المنطقة.

 

أما من جهة الموقف الأمريكي، فقد كشفت التوافقات التي تم توصل إليها منذ الاتفاق حول منبج، الذي لم ينفذ كاملاً حتى الآن، أن أنقرة لا تستطيع في سوريا الركون إلى مصداقية الحليف الأمريكي. وليس من الواضح تماماً ما الذي يعنيه التفاهم الأخير حول منطقة عازلة على الأرض.. هل هي منطقة عازلة تديرها وتشرف عليها القوات التركية، كما تريد أنقرة؛ أو هي منطقة عازلة لحماية الوحدات المسلحة الكردية، كما يقول بعض مسؤولي إدارة ترامب؟

 

قد تستطيع أنقرة في النهاية تنفيذ العملية العسكرية شرق الفرات، ولكن هذه العملية لن تكون ضمن الحدود التي تم تصورها في البداية. المتيقن، حتى إن لم تنفذ تركيا عمليتها، أن القوميين الأكراد السوريين، وخلفهم حزب العمال الكردستاني، خسروا الرهان على الأمريكيين، ومعه مشروع الكيان الكردي في سوريا. فلا تركيا ستتسامح مع كيان كردي على حدودها الجنوبية، يقوده فرع سوري لحزب العمال الكردستاني، ولا نظام الأسد سيقبل إنشاء كيان قومي، بهذه الدرجة أو تلك من الاستقلال، داخل الحدود السورية.

 

“عربي21”

إخوان سورية