رضوان زيادة
هل ستستطيع تركيا أن ترث كل مساحات الأرض التي ستتركها القوات الأميركية في سورية. هذا سؤالٌ من الصعب الإجابة عنه، وما زال الموقف التركي، في هذا الإطار، غامضاً، فالقيادة التركية تدرك أن هذه المساحات واسعة للغاية، ويحتاج إبقاؤها تحت السيطرة التركية إلى عديد من القوات والأسلحة والموارد المالية، من أجل إدارة المجتمعات المحلية داخلها، وخصوصاً في الرقة التي دمرتها القوات الأميركية بالكامل، بهدف القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولم تساهم بتاتاً في تمويل إعادة إعمارها، أو إعادتها إلى الحياة، بما يتطلبه ذلك من بنى تحتية، وعودة للمدنيين هناك.
ولذلك، يبرز السؤال هنا: كيف سيكون موقف روسيا؟ وهل ستكتفي الولايات المتحدة بالتنسيق مع تركيا من دون روسيا في سحب قواتها الكاملة من سورية؟ لا توجد مؤشراتٌ، في الوقت الحالي، تدل على أن الولايات المتحدة ستقوم بالتنسيق مع روسيا، فالعلاقة اليوم في منتهى الرسمية، على الأقل في الجانب العلني منها، لكن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أظهر إشاراتٍ إلى التنسيق مع تركيا، وأرسل مستشاره لشؤون الأمن القومي، جون بولتون، بهدف تحقيق التنسيق الضروري، غير أن الزيارة فشلت في تهدئة المخاوف التركية.
كما أن روسيا تنظر إلى هذه المناطق الغنية بالنفط والغاز أولوية لها. ولذلك صرح الرئيس بوتين، فور إعلان ترامب الانسحاب من سورية، بأنه خبر جيد، ومن المحتمل أن يجري تنسيق عالي المستوى بين الطرفين، الروسي والتركي، لملء الفراغ في مناطق شرق سورية وريف البادية، لا سيما أن شركات روسية تحضر لاستخراج الغاز واستثماره في هذه المناطق، وهو ما يعني أن روسيا وتركيا ستكونان الرابحين الأكبر في خلافة الأراضي التي كانت الولايات المتحدة تسيطر عليها في سورية.
وبالنسبة للأسد، يبدو صورياً أنه يستعيد بعض الأراضي، خصوصاً إذا ما سيطرت القوات الروسية على بعضها. ولكن عملياً يظهر بمنتهى الضعف، وعدم القدرة على مغادرة دمشق التي يحكم الخناق على سكانها أمنياً وعسكريا، مع انهيار الوضع الاقتصادي بشكل كامل، وعدم القدرة على تحمل أعباء إعادة الإعمار، ولو في الحد الأدنى. وعلى الرغم من مظاهر الحرارة العربية من وزير الخارجية البحريني، خالد آل خليفة، وزيارة رئيس السودان عمر البشير دمشق، وزيارة مدير مكتب الأمن الوطني، علي مملوك، القاهرة، إلا أن بين النظام واستعادة صورته عربياً مسافة ليست قصيرة، وربما تثمر الضغوط الغربية في إبقاء العزلة العربية عليه، بسبب المجازر الجماعية التي ارتكبها بحق السوريين على مدى السنوات السبع الماضية.
يعتبر التفاوض اليوم على وراثة الأطراف الدولية والإقليمية الأراضي السورية نتيجة حتمية لفشل الدولة المركزية على مدار السنوات السبع الماضية، في إبقاء وحدة سورية قيمة مركزية، وفي الربط بين السوريين وأرضهم، فتشتت السوريين في بقاع الأرض اليوم، حيث يعيش خارجها أكثر من سبعة ملايين لاجئ، يعد انعكاساً بسيطاً لانهيار فكرة الدولة المركزية في أعين السوريين، وتلاشي شرعيتها التي يمكن أن تستمدها. ولذلك، ما زالت المعارضة السورية اليوم المتحالفة مع تركيا، وخصوصاً فصائل الجيش السوري الحر، والذي اعتمدت عليه تركيا في الدخول إلى كثير من الأراضي الحدودية، وتحريرها من قوات الحماية الكردية، تعتبر الأسد عدوها الأول، وبالتالي تبدو مستعدة للحفاظ على جزء من سيطرتها على الأراضي السورية، بالاعتماد على المساندة التركية، إذا كان ثمن هذا الخروج الأميركي تسليم هذه الأراضي لنظام الأسد.
وبالتالي يمكن القول إنه على المدى البعيد ستتحول سورية إلى أراضٍ خاضعة للسيطرة الذاتية، قسم منها يخضع لنظام الأسد تحت الوصاية الروسية بشكل كبير، مع وجودٍ كبير للمليشيات الإيرانية، وتلك المتحالفة معها، وأراض أخرى خاضعة لسيطرة المعارضة السورية في الشمال تحت الوصاية التركية، مع انهيار كامل للمناطق الكردية التي كانت تحت الوصاية الأميركية، وهو ما يعني أن تغير حجم الأراضي واتساعها لحساب هذا الطرف من ذاك يبدو بعيداً جداً من طموح وصولٍ إلى الحل السياسي الذي يقود إلى انتقالٍ سياسيٍّ حقيقيٍّ، يقوده السوريون، ويؤدي إلى تغييرٍ لنظام الأسد، فقد شهدنا، في السنوات الثماني الماضية، تغييراً كبيراً لمعادلات الجغرافيا على الأرض، لكنها كانت، في جوهرها، قائمةً على تغييرات مؤقتة، تعتمد على تغير مصالح القوى الإقليمية والدولية من طبيعة الصراع في سورية. ولذلك، تبدو رغبة ترامب الانسحاب الكامل من سورية أحد أوجه هذا التغير، في النظر إلى المصالح الأميركية في سورية، حيث لا يرى ترامب أي مصلحة أميركية في البقاء في سورية، وتحمل تكاليف البقاء هناك، للقضاء الكلي على “داعش”، أو تحمل تكاليف إعادة الإعمار التي أعلن أن السعودية ستتكفل بها.
تنقل صحيفة واشنطن بوست أن الرئيس ترامب أخذ نصيحة الانسحاب من سورية من السيناتور راند بول من ولاية كنتاكي، حيث تذكر الصحيفة أن سياسة الرئيس ترامب الخارجية لا تتبع أي أيديولوجية راسخة، لكنها غالباً ما تكون مزيجاً من وجهات نظره الشخصية التي طال أمدها وتأثير آخر شخص يعيره أذنه. في هذه الأيام، يستمع ترامب، أكثر من أي وقت مضى، إلى السناتور راند بول الذي يدير بهدوء السياسة الخارجية الأميركية في اتجاه جديد.
ولذلك، جعل قرار ترامب المفاجئ، سحب جميع القوات الأميركية من سورية، على عكس نصيحة فريق الأمن القومي بأكمله، كثيرين يعتقدون أن لمحادثات بول المتكرّرة عبر الهاتف مع ترامب خارج إطار عملية السياسة تأثيراً كبيراً على قرارات الرئيس ترامب بشأن السياسة الخارجية. والمؤكد أن الاثنين يعتبران من رفاق لعبة الغولف، فهما يلعبانها معاً في أحيانٍ كثيرة.
أصبح الجميع يدرك أن صوت راند بول هو الذي يوليه الرئيس اهتماماً متزايداً، وهو يمتلك رؤية أيديولوجية تقوم على انسحاب الولايات المتحدة الكامل من العالم، ويبدو ترامب ما زال بعيداً عن ذلك، ولكنها ربما تجعله يوماً بعد يوم أقرب إلى وجهة النظر هذه.
العربي الجديد