الإخوان المسلمون في سورية

الموقف التركي من التواجد الأمريكي في سوريا

محمد زاهد جول

 

انتهت قبل يومين الدورة الحادية عشرة من مؤتمر أستانة في العاصمة الكازاخية أستانة 28 ـ 29 نوفمبر الماضي، بحضور الدول الثلاث الضامنة لتنفيذ الاتفاق وهي، روسيا وإيران وتركيا مع المعارضة السورية، وقد حضر المؤتمر المبعوث الأممي لسوريا ستيفان ديمستورا، ومن القضايا الأساسية تشكيل هيئة صياغة الدستور، فلا فائدة مرجوة من نجاح اتفاق استانة في مراحله الأولى، المتعلقة بوقف إطلاق النار في معظم مناطق سوريا، باسم مناطق خفض التصعيد، بدون أن تتم متابعة ذلك بإنهاء الصراع وإيجاد حل سياسي يضمن تطبيق اتفاق أستانة وقرارات مؤتمر جنيف السابقة، ولكن المشكلة الكبرى الحقيقية في سوريا اليوم، لم يأت ذكر عنها بصورة مباشرة، وتمت الاستعاضة عنها بإشارة على لسان بيان الخارجية التركية بعد ختام المؤتمر: “أن مباحثات أستانة أكدت الموقف المناهض للأجندات الانفصالية الرامية إلى النيل من وحدة وسيادة الأراضي السورية، التي تمثل تهديدات للأمن القومي لدول الجوار”.

 

لا شك بأن تشكيل لجنة صياغة الدستور مهمة جداً، ولكنها لم تر النور في هذا المؤتمر، وعلى لسان المعارضة السورية أن المسألة بعيدة أيضاً، بالنظر لما رأوه وسمعوه في المؤتمر، ولكن لماذا يحذر بيان المؤتمر من الأجندات الانفصالية الرامية إلى النيل من وحدة الأراضي السورية، قد يقال إن التحذير تبعته جملة موضحة وهي، أن هذه الحركات الانفصالية تمثل تهديدات للأمن القومي لدول الجوار، وهذا لا يشمل من الدول الضامنة إلا تركيا، فروسيا وإيران ليس لهما جوار جغرافي مع سوريا في الأصل، ولكن جيوشهما فيها، وبذلك أصبحت الأزمة السورية أو سوريا نفسها جزءاً من قضاياهما السياسية، محلياً ودولياً، فوجودهما ليس وجوداً آنياً، بل لهما أهداف استراتيجية، سيجعل منهما شريكين في النظام السياسي في سوريا في المستقبل.

 

وهكذا فإن المشكلة التي ينبغي أن يواجهها مؤتمر أستانة أو مؤتمر جنيف هي مستقبل الجيوش الأجنبية في سوريا، وفي مقدمتها جيوش الدول الكبرى روسيا وأمريكا، ومن ثم جيوش الدول الإقليمية إيران وتركيا، ومن ثم مقاتلو وميليشيات الأحزاب والمنظمات الأجنبية المدعومة من الدول الكبرى أو الإقليمية، فبعض هذه الأحزاب الميليشياوية أصبحت صاحبة قرار عسكري وسياسي كبير في سوريا، وما حد من نفوذها لتقرير مصير سوريا هو الوجود العسكري الروسي والأمريكي والإيراني والتركي فقط، وعلى رأسها حزب الله اللبناني الذي ينفذ الأجندة الإيرانية، وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) الذي ينفذ الأجندة الأمريكية، ولا يخرج عن هذا التصنيف جيش الأسد، الذي ينفذ الأجندة الروسية، وقد يقال إن الجيش السوري الحر ينفذ الأجندة التركية، ولكن الجيش التركي هو الجيش الوحيد الذي له حدود جغرافية مع سوريا أولاً، وأجندة بعض الجيوش الأخرى، وبالأخص التابعة لحزب العمال الكردستاني، الذي يهدد الأمن القومي التركي هو تهديد حقيقي وثابت في المحاكم التركية، وأهدافه في سوريا هي أهداف انفصالية، والتواجد الأمريكي في سوريا لا يراهن إلا عليه، لتحقيق أهداف وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) في منطقة الشرق الأوسط وليس في سوريا فقط.

 

هذا التهديد لوحدة سوريا بسبب التنظيمات الانفصالية حذرت منه تركيا كثيراً، منذ نشوء الصراع العسكري فيها، وبالأخص في شمالها، وأوصلت الحكومة التركية رسائلها الكثيرة لأمريكا بشأن هذا الخطر، ولكن بدون استجابة أمريكية فاعلة، والرد الأمريكي هو أنها ستعمل لكيلا يتحول تعاونها العسكري الكبير من قوات سوريا الديمقراطية “قسد” إلى مهدد للأمن القومي التركي، بل تعهدت أمريكا مراراً أن تمنع أي تهديد للأمن القومي التركي من الأراضي التي تسيطر عليها، ولكن بدون أن تجيب عن سبب تواجدها الحقيقي في سوريا أولاً، ولماذا تبني هذه القواعد العسكرية بآلاف الجنود في شمال سوريا ثانياً، ولماذا تتعاون مع هذه الأحزاب الانفصالية (الكردية) فقط ثالثاً، ولماذا ترسل إليها أسلحة وذخائر تكفي لإقامة جيش قوامه سبعون ألف جندي رابعاً؟ فكيف تثق تركيا بالرؤية الأمريكية في سوريا وهي ترفض التنسيق معها منذ بداية الأزمة، وكيف تثق تركيا بأمريكا وقد نكثت بتعهداتها بسحب هذه المليشيات بعد طرد تنظيم “داعش” من المدن والقرى السورية، ولماذا تمنع عودة السكان العرب الأصليين إلى هذه المدن والقرى السورية. إن التواجد العسكري الأمريكي في سوريا يهدد الأمن القومي التركي على المدى البعيد، لأن الرؤية الأمريكية مع التنظيمات والمليشيات الانفصالية (الكردية) هو إقامة دولة كردية، بدليل أن أمريكا تتبنى التغيير الديمغرافي شمال سوريا لصالح التنظيمات الانفصالية (الكردية)، فقد قامت الطائرات الأمريكية بتمكين الأحزاب الانفصالية (الكردية) من السيطرة على القرى والمدن العربية وإعطائها لغير أهلها، لتحقيق أهدافها بتغيير التركيبة الديمغرافية في مناطق نفوذها، وهذا التغيير الديمغرافي لسكان المدن والقرى السورية مارسته إيران وسبقت أمريكا به، بل تقوم إيران بفرض عقيدتها الطائفية في المناطق التي تسيطر عليها، وتقوم بعملية تهجير لأهلها، فمن لا يخرج منها تقوم المليشيات الإيرانية واللبنانية وجيش الأسد بتصفيته، وتقوم حكومة الأسد بإعادة تشكيل البنية الديمغرافية في سجل الأحوال الشخصية بما يخدم رؤيتها للتغير الديمغرافي في الأحياء التي يسيطر عليها جيش الأسد والميليشيات الداعمة له، وهذا الأمر من التبني للتغير الديمغرافي لمستقبل سوريا تقوم به روسيا أيضاً، فروسيا قامت في عملية تطبيق اتفاقية خفض التصعيد بإجراء عمليات ترحيل لسكان من حمص الغوطة الشرقية لدمشق ودرعا وغيرها، ورحلتهم إلى إدلب، بشرط إطلاق المعتقلين لدى ميليشيات الأسد، ولكنها لم تف بهذا التعهد أيضاً، بل عملت على تمكين جيش الأسد من هذه المناطق، التي يباشر التطهير العرقي والطائفي فيها. هذا التبني للتغيير الديمغرافي الذي تقوم به أمريكا وإيران وروسيا في سوريا، هو المميز الثاني للسياسة التركية في سوريا، فالجيش التركي ومعه الجيش السوري الحر لا يقومان بعمليات تطهير عرقي ولا تغيير ديمغرافي إطلاقاً، بل تطالب تركيا إيران وروسيا وأمريكا بمنع التغيير الديمغرافي ومنع التطهير العرقي والطائفي، بل إن النقطة الأساسية في الحوار التركي الأمريكي حول شمال سوريا هو تمكين سكانها الأصليين من الثبات والصمود فيها، وتوفير أسباب الأمن والاستقرار الأمني والاقتصادي والاجتماعي لهم، سواء تم ذلك تحت مسميات المناطق الآمنة، أو دعم السكان الأصليين في مدنهم وقراهم، وإخراجهم من تجاذبات الصراع الدولي فيها.

 

إن الموقف التركي من التواجد العسكري الأمريكي لا يختلف عن موقفه من التواجد العسكري الإيراني أو الروسي، وإذا كانت أمريكا قد أدارت ظهرها للسياسة التركية، فإن روسيا أصبحت بحاجة أكبر للتعاون مع تركيا في سوريا، فالرؤية الأمريكية التي شجعت روسيا على التدخل العسكري في سوريا أصبحت واضحة، ومن أهمها تبرير وجودها العسكري فيها أمام الكونغرس ودول العالم، وأن التواجد العسكري الأمريكي ضروري مقابل التواجد العسكري الروسي، وإن كانت السياسة الأمريكية لا تذكر اسم روسيا وتكتفي بذكر اسم إيران، وضرورة إخراجها من سوريا فالنتيجة واحدة، لأن روسيا لا تستطيع البقاء في سوريا بدون وجود جيش إيراني تعهد به خامنئي أمام بوتين لحماية القواعد العسكرية الروسية في سوريا، قبل ثلاث سنوات ونصف السنة، فضلاً عن دور المليشيات التابعة لإيران، التي تدافع عن الجيش الروسي في سوريا، كخط دفاع أول عن كل الثكنات العسكرية الروسية في سوريا. إن اهتمام الخارجية التركية بإعلان بيان أستانة11 بالنص على عدم تمكين التنظيمات الانفصالية من تحقيق أهدافها الانفصالية، لا يتوقف على رفض الموقف الأمريكي الداعم للانفصالين الأكراد، وإنما يشمل رفض الموقف الإيراني الذي لا يزال يسعى ويأمل أن ينتهي مؤتمر أستانة وجنيف لصالحها، بتمكين نظام الأسد من خداع أمريكا وروسيا في ذلك، ولكن الموقف الإيراني لم يتخل كلياً عن مشروع “سوريا المفيدة”، أي تقسيمها، طالما لم تستطع إيران منع أمريكا من تقسيم سوريا. وهذا في النهاية سيتوافق مع الموقف الأمريكي، بل قد تعمل إيران وأمريكا معاً لتقسيم سوريا، لإخراج روسيا وتركيا خاسرتين، فالموقف الإيراني الحقيقي هو رفض مؤتمر أستانة وجنيف، الذي يعمل لوحدة سوريا أولاً، وترفض إيران وضع دستور سوري جديد ثانياً، طالما أن هذا الدستور لا يضمن بقاء عائلة الأسد في السلطة، كما أن إيران لا تراهن على بقاء نفوذها في سوريا معتمدة على الوجود العسكري الروسي فيها، لأن روسيا أقل الدول وفاء بتعهداتها السياسية التي تعارض مصالحها الخاصة، وهذا ما يفسر دعوة روسيا المتكررة مطالبة بإخراج الجيش الأمريكي من سوريا، وهذا ما يفسر تصريح روسيا الجديد ضد الدعم الأمريكي للتنظيمات الكردية الانفصالية في سوريا، فروسيا أصبحت تدرك أكثر أنها أمام مستقبل أسود في سوريا، فلن تضمن لها إيران ولا أمريكا النجاح فيها إطلاقاً.

 

*كاتب تركي

 

القدس العربي

إخوان سورية