الإخوان المسلمون في سورية

تركيا وتفاهماتها مع أمريكا وروسيا وإيران في سوريا

محمد زاهد جول

 

قد تكون الزيارة السرية للرئيس الأمريكي ترامب للعراق يوم 27 ديسمبر الجاري، ولقاؤه الجنود الأمريكيين في قاعدة الأسد في الرمادي بدون لقاء أحد من الرئاسة أو الحكومة العراقية، تمثل أحد أوجه صورة أمريكا في منطقة الشرق الأوسط، كما تعطي أحد الأجوبة للأسباب الدافعة لقرار ترامب الانسحاب العسكري من سوريا أيضاً، وكذلك في تفسير ما نتج عنه من علاقات تحالف مرتفع المستوى، بعد أشهر من التشنج بين الرئيسين الأمريكي ترامب والتركي أردوغان.

 

ترامب نفسه اعترف بوجود “مخاوف أمنية”، رافقت زيارته إلى العراق، وأعرب عن “حزنه الشديد” لحاجته إلى السرية للقاء الجنود الأمريكيين هناك، وقال: “من المحزن جداً عندما تنفق 7 تريليونات دولار في الشرق الأوسط، ثم يتطلب الذهاب إلى هناك كل هذه السرية الهائلة والطائرات حولك، وأعظم المعدات في العالم”.

 

هذا يعني أن أمريكا في أزمة كبرى في الشرق الأوسط، فهي تسعى الآن للتفاهم مع حركة طالبان الأفغانية للتوصل إلى اتفاق يعطي أمريكا مبرراً أمام شعبها والعالم للإنسحاب من أفغانستان بعد ثمانية عشر عاماً من الحرب العبثية، والخلافات الأمريكية الباكستانية ليست بعيدة عن ذلك، والأشد منها مع الصين والعقوبات المتبادلة بينهما، وهذا يؤكد أن ترامب عازم على تنفيذ رؤيته وأولوياته السياسية والاقتصادية والعسكرية، بأن أمريكا أولاً، وأن الأموال الأمريكية هي للشعب الأمريكي، ومن يطلب تواجداً عسكرياً أمريكياً لحمايته عليه تحمل الأعباء المالية مقابل ذلك، وهذا يعني أن ترامب سوف يخذل الكثير من حلفائه، وفي مقدمتهم الدول الأوروبية، كما جاء في تصريح الرئيس الفرنسي ماكرون في تعقيبه وأسفه على انسحاب أمريكا من شمال سوريا وترك فرنسا وحدها هناك.

 

إن الرسائل المتبادلة في الأسبوع الماضي بين ترامب وأردوغان ترجح أن أمريكا تعول على الجيش التركي لملء الفراغ الأمني والعسكري في شمال سوريا، وهذا لم يتم بين ليلة وضحاها، وإنما من خلال تفاهمات تركية وأمريكية، خلال السنتين الماضيتين، وبالتحديد بعد الانقلاب العسكري الأخير في تركيا 2016، أي بعد أن وصلت التوتر بين الجيشين التركي والأمريكي إلى أعلى درجاته، فالشعب التركي كان قد حمل مسؤولية الانقلاب لجولن، وما كان لتنظيم جولن أن يحرك قلة من الجيش التركي دون علم الاستخبارات الأمريكية أولاً، فضلاً عن شبهات أخرى بتحركات قاعدة انجيرلك الأمريكية في تركيا بمساندة الانقلابيين وغيرها، فبعض الجنرالات الأمريكيين ارتكبوا أخطاء فاحشة بحق الشعب التركي وبحق العلاقات الاستراتيجية بين الدولتين، وهو ما تطلب من أمريكا البحث عن طريقة صادقة لمعالجته، وبالأخص بعد أن أخذت السياسة التركية تتوجه للتفاهم والتعاون مع الرئاسة الروسية، وقد وجدت ترحيباً كبيراً من الرئيس بوتين، الأكثر حاجة لتوثيق العلاقات الروسية التركية لأسباب اقتصادية متفاقمة في روسيا أولاً، ولإخراج روسيا من ورطتها في سوريا ثانياً، بعد أن عجز الجيش الإيراني وميليشاته العربية من مساعدة روسيا لإنجاز مهمتها في سوريا.

 

هكذا وجد أردوغان نفسه في أقوى مراحل حكمه، بعد فشل الانقلاب العسكري الأخير في تركيا أولاً، وبعد أن استطاع تعديل النظام الرئاسي والفوز في الانتخابات الرئاسية 2017 ثانياً، وبعد الانتصار الذي حققه الجيش التركي بطرد التنظيمات الإرهابية المتاخمة للحدود التركية، في عمليتي درع الفرات 2016، وغصن الزيتون 2017 ثالثاً، وجاء الإعلان الأخير لأردوغان عن قرب تحرك عسكري تركي نحو منبج خصوصاً وشرق الفرات عموماً، وتفهم واشنطن لذلك وتأييده رابعاً، فالحكومة التركية اليوم أمام تحد كبير في إدارة تفاهماتها وتحالفاتها مع ترامب وبوتين وإيران معاً، فهذه الدول الثلاث أصبحت على علاقة قوية ووطيدة مع الرئاسة التركية، ولكل دولة منها أهدافها ومصالحها الخاصة مع تركيا وفي سوريا أيضاً، وتصريحات ترامب الأخيرة بأنه يرى أن تركيا قادرة على ملء المكانة التي كان يتواجد فيها الجيش الأمريكي في سوريا في حالة انسحابه، قد تجعل تركيا في حالة مواجهة سياسية على أقل تقدير مع روسيا وإيران أيضاً.

 

قد يكون من المستبعد الآن الحديث عن مخاوف مواجهة عسكرية مباشرة بين تركيا وروسيا وإيران في سوريا، ولكن المواجهة غير المباشرة قد تكون هي المرجحة في الأشهر المقبلة، فتصريحات الخارجية الروسية ترى أن جيش الأسد هو الذي يجب أن يحل محل الجيش الأمريكي في سوريا، وتجري روسيا اتصالات ومفاوضات مع الأحزاب الكردية (الارهابية) شمال شرق سوريا، التي كانت تتلقى الدعم الأمريكي قبل قرار الانسحاب، فضلاً عن أن هذه القوات، وبالأخص قوات سوريا الديمقراطية تملك قدرات عسكرية كبيرة من الدعم الأمريكي السابق، وقد يعود لاحقاً أيضاً، ولكن عودة روسيا لدعم الأحزاب اليسارية (الكردية) في سوريا قد يفتح أبواب خلاف تركي روسي، وبصورة مشابهة قد يحصل مع إيران، رغم أن البلدين أي روسيا وإيران بحاجة إلى التعاون الاقتصادي مع تركيا أولاً، ولاستمرار نجاح مؤتمري أستانة وسوتشي في سوريا، بل وفي مؤتمر جنيف وتشكيل لجنة صياغة الدستور المستقبلي لسوريا.

 

التواجد العسكري التركي في سوريا هو الوحيد الذي لا يمثل تدخلاً عسكرياً أو احتلالاً ضد إرادة القسم الأكبر من الشعب السوري، الذي تقوده فصائل المعارضة السورية، وعلى رأسها الجيش السوري الحر والجيش الوطني السوري، ففي شمال سوريا نحو خمسة ملايين مواطن من الشعب السوري ينعمون بالأمن والخدمات الإنسانية بفضل دعم الحكومة والجيش التركي لفصائل المعارضة السورية المعتدلة، التي خاضت معارك سبع سنوات مع كل أعداء سوريا بما فيها جيش الأسد، بعد أن فقد هويته كجيش وطني لكل الشعب السوري. ولو خرجت كل جيوش التدخل الخارجي من سوريا، بما فيها الجيش التركي لأمكن لفصائل المعارضة السورية حسم معركتها مع جيش الأسد خلال أيام، ولكن تدخل إيران في سوريا هو الذي مكن جيش الأسد من البقاء بصفته جيش الدولة السورية، وهو ما ينطبق على الحكومة السورية أيضاً، ولما عجز الجيش الإيراني جاء التدخل الروسي لإتمام المهمة الإيرانية، وهو ما لم ينجح به الجيش الروسي أيضاً، فاحتاج بوتين إلى التعاون مع تركيا.

 

النتيجة الحتمية في سوريا تقول إنه لن ينجح تدخل عسكري خارجي، إذا لم يعتمد على أغلبية الشعب السوري أولاً، فالمراهنة اليوم هي على موقف الأغلبية للشعب السوري، وهي الأغلبية العربية السنية، ولذلك فشلت أمريكا بإقامة كيان كردي انفصالي شمال سوريا، وهذا هو مغزى قرار انسحاب أمريكا من سوريا، وستفشل روسيا في ذلك إذا تبنت المشروع الأمريكي، فأغلبية الشعب السوري هي التي تملك قرار مستقبل سوريا ولو بعد عقود، ولذلك فإن هذه الأغلبية تجد في التعاون التركي معها الدعم العسكري الحقيقي الذي لا يحمل مشروعاً استعمارياً ولا احتلالياً، ولا مصلحياً اقتصادياً خاصاً، وإنما تفرضه المصلحة الأمنية الحدودية المشتركة، كما تفرضه الأخوة الحقيقية بين الشعب التركي والشعب السوري العربي، والتعاون الاقتصادي بينهما.

 

سحب القوات الأمريكية من سوريا تأييد لمطالب الشعب الأمريكي، الذي يرغب بعودة أبنائه إلى بلادهم سالمين. لقد ارتكبت أمريكا خطأً فادحاً في محاولة خلق جسم هجين في سوريا، ما اضطرها للانسحاب في النهاية، وهو ما سوف يضطر روسيا للانسحاب أيضاً، أما القوات الإيرانية فلن تنسحب إلا مهزومة من الشعب الإيراني أولاً ثم من الشعب السوري ثانياً، فالشعب الإيراني سيبدأ محاسبة من أساءوا له بالتدخل في العراق وسوريا واليمن ولبنان وغيرها، وما يشجعه هو التفاهم الروسي “الإسرائيلي” على طرد القوات الإيرانية من سوريا، وما سوف يعقبه من إضعاف حزب الله اللبناني عسكرياً في لبنان، وهو ما لا تستطيع إيران مواجهته بعدما لحقها من ضعف جراء إلغاء الاتفاق النووي معها، وما تبعه من عقوبات أمريكية قاسية، فهذه خطوات ستجعل إيران أقل تسلطاً على شعبها، كما سيجعلها أقل تأثيراً على أحداث الشرق الأوسط أيضاً.

 

لم يسدل الستار بعد على قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا، فهو يحتاج لثلاثة أشهر أولاً، وقد تقع أحداث تغير في القرارات الدولية في سوريا، وقرار الانسحاب أمام مواجهة كبيرة من البنتاغون نفسه، فقد فوجئ البنتاغون بالقرار، الذي اتخذ دون موافقته بدليل استقالة وزير الدفاع ماتيس، التي هزت القيادة العسكرية في أمريكا، وقد يتبعها تغير في قيادة البنتاغون، وبالأخص أن روسيا تعلن عن إنتاج أسلحة حديثة قد تغير التوازن العسكري الدولي، وهو أحد أسباب الانسحاب الأمريكي من سوريا في قراءة أخرى، ما يجعل السياسة التركية أمام مسؤولية حماية شعبها قومياً وشعوب المنطقة إقليمياً، وبدون الاضطرار للمشاركة في محاور صراعات دولية مقبلة.

 

كاتب تركي

 

القدس العربي

إخوان سورية