الإخوان المسلمون في سورية

نظام الأسد و«داعش» شريكان في ترهيب الأقلّيات

عبدالوهاب بدرخان

 

تختصر صرخة مي سكاف ووصيتها «هذه سورية العظيمة وليست سورية بشار الأسد»، تقويماً سامياً يوحّد السوريين في وجدان كلٍّ منهم، موالياً كان أم معارضاً. فمَن مِن الموالين لا يزال يختزل البلد بالأسد يعرف في قرارة نفسه، أياً يكن انتماؤه الطائفي، أنه يقول ذلك خوفاً واضطراراً وأنه إذ يمجّد الأسد يقزّم بلده ويحقّر ذاته. ومَن مِن المعارضين لا يزال يعتقد أن العقلية الفئوية والفصائلية هي أفضل ما عنده لمحاربة «سورية الأسد» فإنه أخطأ ويخطئ في حق «سورية العظيمة». رحلت الإنسانة الرائعة قهراً وكمداً، فأي داء عضال ألمّ بجسدها لا يمكن أن يكون أكثر فتكاً وتعذيباً من فظائع المأساة التي اجتاحت بلدها. فقدت الأمل في الشفاء لكن وصيتها الأخرى كانت «لن نفقد الأمل» في سورية وشعبها. كانت مي سكاف فنانة حقيقية، ولأنها كذلك كان بدهياً أن تنتمي بوضوح: الفن والوحشية لا يلتقيان.

 

الأكثر قهراً وفظاعة في الوحشية أن تُصوَّر بأنها «الدولة» التي يجب الحفاظ عليها، أن تُؤتمن على «المؤسسات» فتُكافأ ارتكاباتها بإعادة تأهيلها، أن يُعترف لآلة القتل بضرورتها بل بحقّها في تلميع فجورها، وأن تعقد الدول مؤتمرات في آستانة أو سوتشي لتقويم النجاحات الباهرة التي حقّقتها الوحشية ولتستخلص روسيا أن ما أنجزه نظام الأسد من الجرائم كافٍ لاستحقاق رفع العقوبات عنه. تسعة اجتماعات لـ «مسار آستانة» فشلت في جلاء قضية المسجونين والمفقودين، وعشية الاجتماع العاشر لهذا المسار في سوتشي، بدأ نظام الأسد يحرّك الملف، ليس بالإفراج عنهم بل بالإبلاغ عن موتهم بـ «أمراض» متعددة و«نوبات قلبية»، أي موتهم بفعل التعذيب. لن ترى «الدول الضامنة» و«المتضامنة» معها سوى أضرار جانبية تسبّب بها جلّادو النظام، ويُستحسن تجاوزها «للنظر إلى المستقبل». أي مستقبل؟ هذه الدول مهتمّة فقط بمصالحها، والأسد منشغلٌ بـ «استعادة السيطرة» لتأجيل أي مستقبل ولا يرى أي حلّ إلّا بالمزيد من القتل.

 

السيطرة عند النظام هي الإخضاع، و«المصالحات» لتهجير مَن أراد وإذلال مَن يبقى، وعودة «مؤسسات الدولة» فرصةٌ لـ «التعفيش». أما تطبيع الأوضاع – في مناطق تحت سيطرته أو بعد استعادته السيطرة عليها – فلا يستقيم في عُرفه إلّا بمذابح انتقامية، معلنة مسبقاً. وتلتقي تحليلات الوقائع، قبل مذبحة السويداء وخلالها وبعدها، عند النتيجة ذاتها: النظام يحرّك الفصائل التابعة له في تنظيم «داعش» للقيام بالحملات القذرة. فـ «الداعشي» مخلوق متعدّد الاستعمال، يمكن أن يقاتل مع النظام في مكان وضدّه في مكان آخر وأن ينفّذ عمليات انتحارية بحسب الطلب، يزرعه النظام حيث يشاء ويمدّه بإمكانات البقاء ووسائل التحرّك والانتشار. حقّق النظام من استخداماته «داعش» كل الأهداف والمصالح التي أرادها. فعندما كان «داعش» يقاتل فصائل المعارضة كانت رواية «النظام في مواجهة الإرهاب» تتعزّز، وعندما كان «داعش» يقطع رؤوس رهائنه الأجانب كان النظام يكسب تمييزه دولياً كـ «أفضل الأشرار»، وعندما فقد النظام بضع مئات من عناصره في معارك مع «داعش» كان يجيّر خسائره لإبراز شركته في محاربة الإرهاب.

 

يحقّ لـ «داعش»، شأنه شأن الروس والإيرانيين، أن يدّعي لنفسه فضلاً في إعادة تأهيل النظام بعد تمكينه من البقاء والانتصار، وإذا كانت خدماته التقت مع الروس والإيرانيين في التركيز على السنّة فإن مساهماته تميّزت باستهداف المسيحيين والإسماعيليين والتركمان والفلسطينيين، ولم تكن مذبحة «الأربعاء الأسود» المرّة الأولى التي يتعرّض فيها للدروز، لكنها كانت الأكثر دموية وبشاعة. كان ظهور «داعش» وانتشاره بمواكبة أسدية وإيرانية الحدث الحاسم الذي غيّر المقاربة الدولية للأزمة السورية، فأصبحت الأولوية للقضاء على الإرهاب لا لإطاحة النظام أو الضغط عليه للانخراط في حل سياسي. وفيما أتاح «داعش» للأسد والإيرانيين تظهير المعارضة كمؤشّر إلى تعاظم «الإرهاب السنّي»، شكّلت وحشية التنظيم الذريعة القاطعة لموسكو كي تبرّر تدخّلها المباشر، علماً أنها لا تحتاج إلى مبرّرات، فـ «محاربة الإرهاب» كانت عنواناً لإنقاذ النظام. وبالنسبة إلى كثيرين بدت الشراكة بين روسيا وإيران والنظام كأنها ضمانٌ صلبٌ لـ «حماية الأقليات» الدينية، بالتالي فإن نظام الأسد كتكتّلٍ للأقليات ضد الغالبية السنّية هو النظام الأمثل لحكم سورية.

 

غير أن الشراكة غير المعلنة بين النظام و«داعش» كانت لها وظيفة أخرى: ترهيب الأقليات. لم تشكّل أي أقلية خطراً على النظام، وإذ تعاطف بعضٌ من أبنائها مع مطالب الانتفاضة الشعبية، كونها معبّرة عن طموحات الشعب عموماً، فإن قياداتها وعت باكراً خطورة العنف المفرط الذي اتّبعه النظام وجنحت إلى النأي بالنفس عن المشاركة في الصراع المسلّح. لكن تسارع الانشقاقات عن الجيش في العامين الأولين أفقده ما يقرب من ثلثيه وفرض حاجة ماسّة إلى مجنّدين. حاول الإيرانيون أولاً تعويض النقص بمضاعفة مشاركة «حزب الله» اللبناني ثم عملوا على تأسيس ميليشيات محلية بالتعاون مع عدد من الضباط العلويين. في الأثناء، كانت أجهزة النظام تضغط على الزعامات الدينية للأقليات لتوجيه أبنائها إلى التجنيد، ولم تكن الاستجابات على قدر التوقّعات. كثّف الإيرانيون استقدام العراقيين والأفغان والباكستانيين وظلّت المشكلة قائمة. ومع اشتداد الضغوط، أخذ الأسد بشعار «مَن ليس معي فهو ضدّي» وحقد النظام على كل مَن أحجم عن التعاون معه.

 

لم يقبل النظام حياد أي طائفة وعاقب كلّاً منها بطرائق متشابهة أهمها تحريك أحجاره «الداعشية» ولأهداف متفاوتة بقي التجنيد أهمّها. كانت «حماية الأقليات» تجارة سياسية رابحة للنظام في الخارج، إلا أنه بدّل شروطها وراح يهندس تعريض الأقليات للخطر والمجازر قبل «إنقاذها» وإجبارها على قبول شروط «حمايتها». لكن ورقة الحماية هذه فقدت صدقيّتها لأن مناطق الأقليات لمست تناغم الأدوار بين النظام و «داعش» ولم تعد تشعر بالأمان، ولأن حقيقة هذه الممارسات ومشاركة الإيرانيين فيها انكشفت في عواصم الغرب، وكذلك لأن الروس لم يتمكّنوا من ضبطها بل شاركوا في تبريرها، خصوصاً في ما يتعلّق بالتجنيد. فقبل تدخّلهم، عاشت السلمية موطن الإسماعيليين شهوراً صعبة عام 2014 وقتل العشرات في قريتي المبعوجة وعقارب الصافية بهجمات شنّها «داعش»، ولما قصد وفد من السلمية دمشق رفض الأسد مطالبته بالحماية قائلاً أن 24 ألفاً من أبناء السلمية «هم بحكم الفارّين من الخدمة الإلزامية، فليحملوا السلاح ويدافعوا عن مدينتهم». وبعد التدخّل الروسي، تعرّضت مناطق مسيحية عدّة لانتهاكات إمّا على أيدي «شبّيحة» النظام أو بوساطة «داعش» كما حصل لبلدة القريتين مطلع تشرين الأول (أكتوبر) 2017.

 

اللافت في سيناريو الهجمات على القريتين (جنوب شرقي حمص) والسلمية (ريف حماة الشرقي) أنه مطابق لوقائع الهجوم على السويداء: تسهيلات لوجيستية لتمركز «داعش» واستطلاعه المنطقة لرسم خططه، ثم يهاجم فجراً بعد أن تُفتح له الطرق وتُقطع الكهرباء ويقتل بهدف إيقاع العدد الأكبر من الضحايا، ثم يأتي التدخّل «الإنقاذي» صباحاً من جانب النظام بعد أن يتأكد من حصول المجزرة وإمكان استغلالها لابتزاز السكان.

 

كانت السويداء بقيت في كنف النظام، لكن اختيارها الحياد أدخلها في خصومات عدّة: 1) مع النظام الذي أغضبه رفض الدروز تجنيد أبنائهم للقتال إلى جانب قواته واعتمادهم على قدرات محلية للدفاع عن مناطقهم، و2) مع فصائل المعارضة لرفضهم المشاركة في محاربة النظام، و3) مع الإيرانيين الذين لم يتمكّنوا من التغلغل في المحافظة واستاؤوا من رفض السماح لهم بإقامة مراكز عسكرية مساندة للهجوم على درعا في أعوام سابقة، و4) مع الروس الذين لم يتقبّلوا في المعركة الأخيرة ضد درعا رفضاً مماثلاً، ما جعلهم يصنفون مجموعة «قوات شيخ الكرامة» المحلية كمنظمة إرهابية ينبغي نزع سلاحها، وكانت هذه المجموعة وصفت الوجود الروسي في سورية بأنه جيش احتلال.

 

منتصف أيار (مايو)، استعاد النظام السيطرة على مخيم اليرموك الذي أُفرغ تماماً من فلسطينييه، وبذلك انتهت مهمّة «داعش» الذي كان تمركز في حي الحجر الأسود لافتعال صراع مع المخيم. نُقلت عناصر التنظيم بالباصات إلى الريف الشمالي الشرقي للسويداء. منذ تلك اللحظة، بدأت مهمّته التالية، وأصبحت المذبحة مسألة وقت استغلّه النظام لنزع سلاح المجموعات المحلية من دون تعزيز الحماية للمدينة وقراها المجاورة وبتجاهلٍ تامٍّ لمناشدات وجهاء الدروز. كان ذلك بداية ثأره بتدفيع المدينة ثمن حيادها.

 

* كاتب وصحافي لبناني

 

الحياة اللندنية

إخوان سورية