الإخوان المسلمون في سورية

التربية بالسلوك والحال  قبل أن تكون بالوعظ والمقال

مع أن التربية تتناول المعارف والقيم والمهارات، فكثيراً ما يختصرها المربّون بعلوم يلقّنونها، ثم يختبرون بها تلاميذهم!

ولا نريد هنا أن نحصر مفهوم “المربّي” بذلك الإنسان الذي كانت التربية مهنته، كالمعلّمين والمدرّسين في مختلف مراحل الدراسة من الحضانة والروضة حتى الدراسات الجامعية والعليا… فإن هناك مربّين آخرين لا يقلّ دور بعضهم في التربية عن دور المعلّمين. فالأمهات والآباء، ثم خطباء الجمعة والوعاظ، ثم الإعلاميّون في الصحافة والإذاعة والتلفاز… كل هؤلاء يسهمون في العملية التربوية، كلٌّ حسب موقعه.

وكلمة “التلاميذ” كذلك لا تقتصر إذاً على أولئك الذين تحويهم غرفة الصف، وساحة المدرسة، بل إن أولادنا جميعاً تلاميذ في بيوتنا، ثم إننا وأبناؤنا تلاميذ أمام الخطباء والوعّاظ، وبدرجة ما، نحن كذلك تلاميذ أمام رجال الإعلام الذين يسوّقون الأخبار والتحليلات والتمثيليات… بما يتضمّن ذلك كله من توجيهات وقيم.

و”الإنسان – التلميذ” كما يتأثر بكلام أستاذه (معلّمه وأبيه وشيخه…) يتأثر بسلوكه وهيئته وحاله… بل إن تأثره بـ(الحال)، كثيراً ما يفوق تأثره بالمقال.

وأعظم المربين، على الإطلاق هم الرسل الكرام، عليهم الصلاة والسلام، لذلك جعلهم الله في درجات من الكمال يصلُحون بها أن يكونوا قدوات لأقوامهم، بل كانوا كذلك يؤكدون أنهم لا يبتغون أجراً على عملهم، إنما يطلبون الأجر من الله. وهذا التأكيد نفسه إظهار لعظيم التزامهم بما يدعون إليه.

((قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والذين معه)) سورة الممتحنة:4.

ونبي الله شعيب يقول لقومه: ((وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه. إنْ أريدُ إلا الإصلاح ما استطعت)) سورة هود:88.

وجاء على ألسنة عدد من الأنبياء، في القرآن الكريم، قولهم لأقوامهم: ((وما أسألكم عليه من أجر. إن أجري إلا على رب العالمين)) سورة الشعراء:109، 127، 145، 164، 180.

ولما كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم خاتَمَ النبيين، فقد كان بسَمْته وحاله ومسلكه وخشوعه وحكمته وشجاعته وصبره وحلمه…، أعظم أسوة لمن طلب الحق والصواب والترقي في معارج الكمال:

((لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا)) سورة الأحزاب:21.

ومن شأن الناس، أنهم إذا خالطوا الرجل العظيم عن قرب، كشفوا فيه بعض جوانب النقص والضعف التي تعتري الإنسان، فضعُفت هيبته ومكانته في نفوسهم… إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان مَن رآه بديهة هابَه، ومن خالطَه عِشرةً أحبّه، وكان أقربُ الناس إليه كخديجة وعائشة، وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأنس بن مالك وأبي هريرة… أكثرَهم حبّاً له وتعظيماً وتوقيراً واقتداءً.

**********

وقد أدرك الحكماء أهمية القدوة في شخص المربّي، فكثُرت في ذلك أقوالهم.

يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: “من كان كلامه لا يوافق فعله فإنما يوبّخ نفسه”

ويقول الإمام الشافعي (ت:204هـ) موصياً رجلاً كان يؤدب أولاد هارون الرشيد (ت:193هـ): “ليكنْ ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحُ نفسك، فإنما أعيُنهم معقودة بعينك. فالحَسَنُ عندهم ما تستحسِنُه، والقبيح عندهم ما تكرهه!”.

ويقول مالك بن دينار (ت:131هـ): ” العالم إذا لم يعمل بعمله زلَّتْ موعظته عن القلب كما يزلُّ الماء عن الصفا” والصفا: الحجر الأملس.

ويقول الشاعر:

وينشـأ ناشئ الفتيـان منّا         على ما كـان عوّده أبـوه

ويقول آخر، مخاطباً المربّي:

ابدأ بنفسك فانْهَها عن غَيِّها         فإذا انتهتْ عنه فأنت حكيمُ

وقد حفظ التراث التربوي الإسلامي الحكمة القائلة: “حال رجلٍ في ألف رجل، أقوى من قول رجلٍ في رجُل”

فهذه الأقوال جميعاً تؤكّد مسألتين، تكمل إحداهما الأخرى:

الأولى أن الإنسان يتأثر بمسالك الذين ربّوه أكثر مما يتأثر بأقوالهم.

الثانية أن المربي الذي لا يلتزم بما يدعو إليه الآخرين، يكون أثره فيهم ضعيفاً، ولذلك فإن عليه أن يبدأ بنفسه، فيما يقوم بغرسه من القيم.

**********

المربي الناجح يتفاعل مع تلامذته، فيتفاعلون معه، ويتودد إليهم فيتوددون إليه، وقد يصل الأمر بهم إلى درجة الاستهواء، حيث يقلّدونه ويتقمّصون شخصيته، ويتصرفون مثله، بشعور وغير شعور، وقد يعملون على أن تكون مِشيتهم كمِشيته، وضحكتهم كضحكته… ومن باب أولى أنهم يتقبّلون توجيهاته، وينفّذون أوامره… وبذلك يتمكن من تحقيق الأهداف التربوية فيهم بأسرع ما يكون، وبأعمق ما يكون. لكن هذا الأمر، بقدر ما يكون عظيم الفائدة، يمكن أن يكون عظيم الضرر. فإذا كان سلوكه وحاله على خير ما يرام، فقد أمكنه أن يُكسِب تلامذته ذلك. أما إذا كان على غير ذلك فقد يجرّهم إلى البلاء جرّاً، ولن يحلّ المشكلة أن يكون كلامه معهم سديداً، لأنهم يتأثرون بحاله أكثر مما يتأثرون بكلامه!.

وصحيح أن معظم المربين لا يَصِلُون بتلامذتهم إلى درجة الاستهواء هذه، لكنهم على كل حال يؤثّرون فيهم بسلوكهم أولاً وثانياً، ويؤثّرون فيهم بكلامهم ثالثاً، ويعظُم أثر السلوك والقول، كلما زاد حبهم لمربّيهم وثقتُهم به، وكلما كان السلوك متطابقاً مع القول.

ويكفي أن نضرب مثلاً بسلوكين يمكن أن يظهرا في المربي، أحدهما سلوك طيب حسن، والآخر ليس كذلك.

فالسلوك الأول: أن يكون لسانه رطباً بذكر الله، يسمّي اللهَ إذا بدأ، ويحمده ويستغفره ويصلي على نبيّه صلى الله عليه وسلم، يفعل هذا بشكل عفوي، بل لا يكاد يمر عليه موقف لا يتخلله الذكر. إنه رجل ربّانيّ، وروحه الصافية تفيض على تلامذته.

والسلوك الثاني: أن يكون مدخّناً!. ولست هنا بشأن الحديث عن الأضرار البدنية والنفسية والذوقية للتدخين، ولكن بشأن اقتداء التلميذ بأستاذه فيه. فإنْ أحبّ ذلك من الأستاذ وقلّده فيه فهي كارثة، وإن قال: أستاذي جيد في كل شيء، إلا في التدخين، فإن احترامه لأستاذه سيضعف، وتأثُّره به في جوانب الخير ستضعف. وإن قال: آخذ منه ما هو خير، وأدعُ منه ما سوى ذلك، فقد ضعُفت هيبة المربي في نفسه، وقلَّ احترامه له. وإن قال: العلم والتوجيه شيء، والسلوك شيء آخر، فقد أنشأ في نفسه فِصاماً يوشك أن يتلبَّس به، فيكون تلقّيه للعلم والقيم تلقّياً ظاهراً شكلياً، لا يفيده إلا في اجتياز الامتحان أو التظاهر بالمعرفة أمام الآخرين… أما السلوك فشيء آخر!!.

**********

المربي، أباً كان أو معلّماً… يؤدي أمانة عظيمة، وسيُسأل عنها أمام الله تعالى. فليحرِصْ أن يكون في ظاهره وباطنه مُرْضياً لله تعالى، فإنْ فعل خيراً فله أجره وأجر من اقتدى به في ذلك من تلامذته، وإن كانت الأخرى فعليه إثمه وإثم من اقتدى به فيه، وإن ارتكب الإثم سرّاً، فإن هذا الإثم لا يتعدّى إلى التلميذ، ولكن يوشك أن يرشح منه ما يقلل من شأنه أمام تلميذه:

ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ         وإن خالَها تخفى على الناس، تُعْلَمِ

ويكفي المعلّم شرفاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنما بُعِثتُ معلّماً”. رواه ابن ماجه.

ويكفيه مسؤوليةً أنه أسوةٌ أمام تلميذه، شاء أم أبى ((ومن يؤتَ الحكمةَ فقد أوتيَ خيراً كثيراً. وما يذّكّرُ إلا أولو الألباب)).

محمد عادل فارس