غازي دحمان
مرّت ثلاث سنوات على التدخل الروسي في سورية ولم تغرق موسكو في الوحول السورية، كما توقّع لها الرئيس السابق باراك أوباما، واليوم تضع عينها على إدلب، آخر معاقل الثورة، فيما الأميركيون لا يملكون سوى تحذيرها من التداعيات الإنسانية التي قد تنتج من استهداف ثلاثة ملايين من البشر، في منطقة محصورة، بذريعة قتل عشرة آلاف إرهابي.
لم تغرق روسيا في الوحل، لأسباب كثيرة، لعل أهمها أنه لم يكن هناك طرف دولي يدير الحرب ضدها في سورية، وفي الأصل دخلت روسيا المعترك السوري بناء على هذا المعطى، وعبر ضوء أخضر يسمح لها بإنتاج تسويات للوضع السوري، من دون أن تشترط عليها أميركا، أو غيرها، طريقة الوصول إلى تلك التسويات وأساليب إنتاجها، بما يعني ضمناً، أن السماح لها بالوصول إلى النتيجة المبتغاة، صناعة وإنجاز تسوية نهائية للحرب السورية، ينطوي ضمناً على الاعتراف بحق روسيا باستخدام كل الطرق العسكرية، بما فيها «الأرض المحروقة» و»السجادة المطوية»، وليس للآخرين سوى السؤال عن المحصول، وهو هنا إنهاء الحرب في سورية وإنتاج توافق سياسي ما.
لم يغير دونالد ترامب أي حرف من استراتيجية إغراق روسيا، التي تبناها سلفه أوباما، بذريعة أن الوقت تجاوز أي إمكانية للتغيير، وأن الوقائع الميدانية باتت صلبة ومن العبث مناطحتها، وأن أفضل ما يمكن فعله هو تجاهل التطورات في سورية، بل وفي بعض الأحيان إعطاء مساحات أمان لروسيا كي تتورط أكثر، كما حصل في جنوب سورية، عندما تراجعت واشنطن عن التزاماتها تجاه فصائل المعارضة، وهو ما سهّل على روسيا تحقيق أهدافها بأقل قدر من الخسائر، ومن دون تكاليف عسكرية كبيرة تقرب روسيا من تحقيق نبوءة الاستراتيجيين الأميركيين حول غرقها المقبل في سورية.
لكن، كيف استطاع العقل الأميركي تمرير مصطلح إغراق روسيا في الوحل السوري هكذا من دون أدنى حساسية تجاه هذا الأمر، ذلك أن روسيا حتى تصل إلى تلك المرحلة لا بد أنها ستكون أنجزت تدمير سورية وقتل الملايين من شعبها، وهذا وضع طبيعي، ذلك أن السوريين العزل حتى يستطيعوا إغراق روسيا سيدفعون لحمهم ولحم أبنائهم ثمن ذلك، طالما وجوههم للحائط ولا يوجد طرف دولي يزودهم بتقنيات تستطيع مواجهة أسلحة روسيا؟
اليوم، وعلى مشارف معركة إدلب، يبدو الصراخ الأميركي كأنه صوت خارج مجال الحدث السوري، وهو مجرد صوت على «تويتر» أو في الملخصات اليومية للناطقة باسم وزارة الخارجية، في حين تدرك أميركا أن ردع بوتين والأسد يستلزم إسماعهما صوت محركات البوارج وهدير الطائرات، وإلا فإن الأمر لن يتعدى تسجيل المواقف والمزايدة على الدم السوري، في الوقت الذي تجاوزت روسيا التحضيرات اللوجستية لإنجاز عملها، وراحت تهيئ المجتمع الدولي عبر سلسلة مزاعم لم تبذل موسكو جهداً كبيراً في صناعتها، دلالة ومؤشر إلى استسهالها الحدث، ما يعني أيضاً أن خصمها محلي بامتياز، وتحاول روسيا إظهاره على أنه خصم ذو مواصفات أنتربولوجية محدّدة، من تلك التي تسمع عنها المجتمعات الغربية حول آكلي لحوم البشر أو القبائل الهمجية ما قبل الدولة والحداثة.
في المقابل، يتبنى بوتين، منذ لحظة تدخله في سورية، استراتيجية دع الوقائع الميدانية تحكم، وهذه الاستراتيجية لا تعطي أهمية للأكلاف البشرية التي تترتب عليها، ولا للدمار الناتج منها، بخاصة أن صاحبها، بوتين، يعتقد أن العالم يضعه تحت المجهر، لا لمراقبة سلوكه وأفعاله في سورية، بل لرؤية كيف سينجح في هذه المهمة المعقدة، في شرق أوسط لم يسبق لأي قوّة دولية أن حقّقت فيه نتائج مهمة من دون أن تثخنها الجراح وتخرج خاسرة بكل المقاييس.
دعونا نكمل ما بدأناه في سورية، لا تستكثروا علينا سحق إدلب، لا تشوشوا علينا وعلى إبداعاتنا، نحن نحارب الإرهاب، وأكثر أنواعه تشدداً، الإرهاب الذي ضربكم في دياركم» القاعدة»، ولنكن واقعيين، لا يمكن تصفية الإرهابيين ما داموا ينخرطون وسط السكان المحليين، كما لم يعد ممكناً الانتظار، صبرنا نفد، وأي تعليق أو اعتراض من جانبكم سيكون هدفه تشتيتنا ذهنياً والتأثير على خيالاتنا في المعركة، هذا هو فحوى رسالة روسيا للدول الغربية.
من السهل لمتابع التصريحات الغربية، أن يضعها في سياق استراتيجية الإغراق الواهمة، فالغرب لا يطلب من روسيا تغيير مقاربتها السورية، بل تعديل التكتيكات، كأن لا يكون هناك استخدام للكيماوي، لأن ذلك يقلل من احتمالية غرق روسيا ويدفع خصومهم المحليين إلى الانهيار سريعاً، أو عدم اتباع هجمات كاسحة تمنع حصول مقاومة ضد روسيا تستخدم دول الغرب معطياتها لتأكيد نظرية الغرق، في حين أن اتباع سياسات القضم واستهداف كل منطقة على حدة، تكتيكات غير معترض عليها ومقبولة من أميركا وحلفائها.
ليس خافياً أن أهم عناصر الاستراتيجية، أي استراتيجية، قدرتها على تعديل تكتيكاتها لمجاراة المتغيرات، وبات واضحاً أن ما بين روسيا والغرب حواراً وقنوات تواصل، تسمح لهما بالحد الأدنى من إجراء تفاهمات معينة، وتقديم تنازلات محدودة، بما يسمح لكل طرف الاستمرار بسياساته، لكن على حساب الدم السوري دائماً.
* كاتب سوري
الحياة اللندنية